في تشرين الأول من عام 1937 أقدمت السلطات البريطانية على خطوة نوعية لإخماد الثورة الفلسطينية المشتعلة في البلاد، كانت الخطوة ابعاد الزعماء الفلسطينيين المؤثرين ونفيهم إلى سيشل، حيث اعتقدت السلطات البريطانية أن ابعادهم قد يخمد الثورة، وقد يجعل القيادة تعيد النظر في قرارتها ومواقفها.
شمل الابعاد كُلاً من حسين الخالدي رئيس بلدية القدس ورئيس حزب الاصلاح، يعقوب الغصين رئيس لجنة مؤتمر الشباب التنفيذية، فؤاد سابا سكرتير اللجنة العربية العليا، جمال الحسيني رئيس الحزب العربي الفلسطيني، رشيد الحاج ابراهيم مدير البنك العربي في حيفا واحمد زعماء حيفا المؤثرين، أحمد حلمي باشا مدير عام البنك العربي.
يكفي التمعن في الأسماء المذكورة لفهم التوجه البريطاني، فهي اختارت القيادة الفاعلة على الأرض والقادرة اقتصادياً وسياسياً، حيث حاولت السلطات من جهة قطع الامكانيات المادية عن الثورة من خلال ابعاد احمد حلمي باشا، ومن جهة أخرى ابعاد المؤثرين في الشارع كيعقوب الغصين.
ترك الابعاد أثراً قوياً في نفوس الفلسطينيين حيث كانوا يتتبعون أخبار الزعماء بشوق شديد، لهذا سعت الصحف الفلسطينية لتغطية كل ما يجري مع المبعدين، فوثقت دوماً وصول رسائلهم ونشرت مضمونها وتواصلت مع عائلاتهم للاطلاع على كل جديد، كما تتبعت أخبارهم من خلال ما تورده الصحف الغربية ونشرت تفاصيل حياتهم اليومية. بالتالي فالكثير من المعلومات التي نعرفها اليوم عن حياتهم هناك، مستقاة من الرسائل والمواد التي نشرتها الصحف الفلسطينية في تلك الفترة والتي توفر لنا امكانية الوقوف على تفاصيلها.
يقول الأستاذ فؤاد سابا في برقية أرسلها لزوجته ونشرتها جريدة الدفاع “وصلنا سيشل، صحتنا جيدة، خبروا عائلات حلمي باشا، والدكتور الخالدي ورشيد الحاج ابراهيم ويعقوب الغصين. سلام للجميع، فؤاد” هذه كانت برقية الوصول إلى جزيرة سيشل في الحادي عشر من تشرين الأول 1937.
في سيشل – وكما تذكر صحيفة الديلي اكسبرس البريطانية – كان المبعدون يتلقون اعانات مالية لكنهم كانوا ممنوعين من الزيارات، حيث كان يقف أمام مقرهم أربعة من رجال البوليس ويرافقهم حارس خاص اذا خرجوا للتنزه، كي يضمنوا ألا يتحدثوا للناس.
ومما تخبرنا به الصحف أن المبعدين كانوا يسكنون في دارين، واحدة يسكنها احمد حلمي باشا، رشيد الحاج ابراهيم والثانية يسكنها حسين الخالدي، فؤاد سابا ويعقوب الغصين. وتتحدث الصحيفة أنهم لم يأكلوا لحم الضأن مذ وصلوا حيث لا يوجد في الجزيرة من يعرف الذبح وبالتالي فأكثر طعامهم سمك.
كانت الصحيفة في ذاك الوقت مصدراً أساسياً للمعرفة، كانت أهميتها توازي أهمية الانترنت في ايامنا هذه، ولكنهم أيضاً كانوا محرومين منها، حيث كانت تصلهم أعداد قليلة كل فترة، كما لم يكن هناك كتب عربية فحاولوا الحصول على بعضها واهداء مكتبة الجزيرة بعضها.
إن غياب الطعام الذي قد اعتاد عليه الزعماء المبعدين وغياب الصحف والكتب الاذاعات العربية، كل ذلك خلق حالة من السأم والملل في نفوس المبعدين، وهو ما ذكره فؤاد سابا في رسالته التي أرسلها لرئيس الجامعة العربية في الثامن من أيلول من عام 1938 ثم نشرتها جريدة الدفاع في 23 من الشهر نفسه.
كانت رسائل فؤاد سابا تتويجاً – أيضاً – لنشاطات شعبية فلسطينية قام بها رجال الدين ورؤساء الأموال ووجهاء القرى أرسلوا خلالها رسائل احتجاج لرئيس الوزراء البريطاني مطالبين إياه بنقل المبعدين لمكان يتوفر فيه مناخ مريح.
أثمر كل هذا النشاط في نهاية الأمر لأخلاء سبيل الزعماء والذين سيعودون بدورهم لإكمال مسيرتهم السياسية، ليمضي كل في اتجاه، وسيكون لكل واحد منهم قصة مختلفة، لكن فيها أثراً مهماً من تلك الفترة، الفترة التي كانوا يرسلون فيها السلام من سيشل.
شُرب البيرة من بحر غزّة
يبيّن التاريخ القصير لمدينة غزّة كمدينة تجارة بحريّة كيفيّة مشاركة البدو من النقب الذين زرعوا الشعير في تغيير مذاق البيرة البريطانيّة
فيما يلي ترجمة بتصرف خاصة بموقع مدونة “أمناء المكتبة” لمقال الكاتب دوتان هاليفي- ورشة التاريخ الاجتماعي . للاطلاع على المقالة باللغة العبرية الرجاء الضغط هنا.
في مطلع شهر أيلول 1912، نشر رئيس تحرير الصحيفة اليافاويّة “فلسطين” عيسى داود العيسى مقالة تصف زيارته الأخيرة لمدينة غزة. هكذا كتب: “ورد في كتاب صفنيا، الأصحاح الثاني، الآية 4، أنّ “غزة ستكون مهجورة “. هذه المقولة التي قيلت في عهد يوشيا بن آمون حوالي 630 قبل الميلاد لا تزال سارية المفعول بقوّة بالنسبة إلى غزّة. لقد إذ تخلّت عنها الحكومة، معزولة عن العالم، أهمله الله “. وتابع، واصفًا الحالة الحزينة للمدينة، موضّحًا: تخلّت عنها الحكومة – لعدم وجود بنية تحتية فيها، معزولة عن العالم – لعدم وجود طرق للعربات أو سكك حديدية تصل إليها، مهملة من قبل الله – لتوقّف هطول الأمطار في السنوات الأخيرة الذي يحول دون أن تكسب المدينة رزقها من منتج التصدير الرئيسيّ فيها – الشعير.
كان هذا وصفًا موثوقًا به. منذ خمسينيّات القرن التاسع عشر، كان شاطئ غزة هو محور التصدير السنويّ لعشرات الآلاف من أطنان الشعير لصناعة البيرة البريطانيّة. لكنّ الغريب أنّ غزة لم تتطوّر لتصبح مدينة ميناء مثل جاراتها على ساحل البحر المتوسّط. إنّ تحقيق نبوءة صفنيا، كما اقترح العيسى، هو تفسير ممكن لذلك، لكن في ما يلي أودّ أن أقدّم شرحًا آخر لماذا وكيف جاء الشعير من النقب الشماليّ إلى مصانع البيرة في إنجلترا واسكتلندا (أيضًا)، وإظهار أنّ مدينة غزّة لا تزال صغيرة وفقيرة بسبب التجارة هذه بالذات. كما هو الحال في العديد من الحالات الأخرى في تاريخ الشرق الأوسط، أدّت عمليات التحديث التي تربط الأسواق والمنتجات المحلّيّة بالمنظومات الاقتصاديّة العالميّة إلى ربح أحاديّ الجانب وليس لصالح الطرف من الشرق الأوسط.
لفهم القصة بأكملها، دعونا نركّز على حدثين تعطّل فيهما شيء ما في هذه الآليّة التجاريّة. بالنسبة إلى المؤرخ، مثل هذه الأحداث بالذات، تعرض التفاصيل التاريخيّة الهامّة التي كانت ستبقى مخفيّة عن الأنظار. إليكم الأوّل من بينها: في 17 كانون الأوّل 1863، تحرّرت السفينة البخاريّة “طاوبيلو” ” من سلسلة المرساة بالقرب من ميناء غريمسبي في إنكلترا، وانجرفت إلى منطقة اليابسة في بلدة قريبة. تم وُصف السفينة في الصحافة البريطانيّة بأنّها “محطّمة”، لكنّ مالكيها لم يتركوا الشحنة الغالية التي كانت على متنها لتغرق في أعماق البحر. كانت هذه أكياس من الشعير حُمّلت من شاطئ غزّة. إذ فُرّغت هذه الحمولة بسرعة ونُقلت مسافة 300 ميل لكي لا يتأخّر وصولها إلى وجهتها الأصليّة، مدينة ألوا في اسكتلندا. كانت ألوا أحد أهمّ مراكز إنتاج البيرة في المملكة المتّحدة، ومثال جيد لنا على الأماكن التي استهلكت الشعير من غزة. أنتجت ألوا النسخة الأكثر حداثة للبيرة البريطانيّة التي خُصّصت للدول المستقلّة البيضاء في الإمبراطوريّة. في تلك السنوات، لعب المستعمرون البيض، وكذلك المسؤولون وجنود الإمبراطوريّة، دورًا هامًا في تطوير مذاق ولون وملمس جديد للمشروبات التقليديّة البريطانيّة. تحت تأثير صادرات البيرة البريطانيّة إلى المستعمرات، أصبحت البيرة الفاتحة اللون، التي تتمتّع بطعم زغبيّ الفوّارة والباردة، الأكثر شعبية من البورتر (الحمّال) التقليديّة، وهي البيرة ما قبل التصنيع الداكنة واللزجة، وكاسمها (بورتر بالإنجليزيّة أي حمّال أو عامل كادح) كانت مرتبطة بعمّال الموانئ.
المثال المعروف لعشاّق البيرة هو بالطبع “إنديا فايل آيل (IPA – المزر) المشروب الفاتح اللون المنتج في مصانع الجعة في بيرتون، والتي انبثقت نكهته الفريدة من الكحول وعشبة الدينار التي أضيفت إليه موازنة بالماء الكبريتيّ من نهر ترينت، حتى لا تفسد خلال الرحلة الطويلة إلى الهند. في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أدّت القدرات التكنولوجيّة والعلميّة الجديدة التي تمّ تطبيقها تدريجيًّا على مصانع البيرة، مثل: التبريد والبسترة، إلى تسريع هذه التغييرات الأسلوبيّة وجعلت البيرة منتجًا مستهلكًا طوال العام وليس فقط في الأشهر الباردة، كما كان الحال منذ قرون. جنبًا إلى جنب مع الإزالة التدريجية العوائق القانونيّة التي تحول دون بيع البيرة التي بدأت في عام 1830 وفتح الأسواق البريطانية لاستيراد الحبوب ابتداء من عام 1846، ظهرت النكهات والأساليب الجديدة في المشروب وتزايد الطلب على أنواع مختلفة من الشعير من مختلف أنحاء العالم.
كانت أحد مصادر الشعير أرض النقب، كما ترون من الحدث الثاني الذي سننظر فيه. في 11 تشرين 1897، رفض الحمالون في ميناء هول في لندن تفريغ مائة وثلاثة وستين طنًّا من الحبوب من سفينة قادمة من غزة، مدعين أنها مليئة بـ “الغبار”. رفضت إدارة الميناء ادّعاءاتهم، حيث زودت مديري الأرصفة في الميناء بقائمة سوداء بأسماء العمال المتحدّين. ومع ذلك، لم يختلق العمال هذه الادّعاءات. إن حقيقة أنّه على الأقلّ بعض الحبوب التي جاءت من ميناء غزة مليئة بالتراب وأحيانًا حتّى الرمال والأحجار ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالطريقة التي اتّبعتها القبائل البدوية في شمال النقب في زراعة الشعير.
في الواقع، على العكس الصورة التقليدية للبدو، فإنّ القبائل البدوية الرحّل في النقب في القرن التاسع عشر، قامت بزراعة الأرض وعملت في الزراعة بشكل مكثف. كان هذا نتيجة لتغلغل إداري متزايد من قبل الإدارة العثمانيّة في حياتهم. تدخّل الولاة العثمانيون بشكل مكثّف في الحروب بين القبائل على الأراضي الخصبة بهدف واضح وهو التوطين الثابت للقبائل. فترات السلام النسبي التي نشأت في النقب نتيجة للتهدئة المحلّيّة للنزاعات في النصف الثاني من القرن سمحت للقبائل بزيادة عملها في الأرض تدريجيًّا على حساب الرعي. على مر السنوات، مع استقرار المناطق القبلية نتيجة للضغوط العثمانية، أنتجت الزراعة أيضًا فوائض، تم بيعها في أسواق غزة والخليل وفي السوق الذي سيصبح لاحقًا بئر السبع.
ليس من العبث وقع اختيار البدو في النقب من أجل التركيز على زراعة الشعير – إذ كان (وما زال) الأكثر تكيّفًا مع الظروف المناخيّة لشمال النقب، وهو الذي يمكن أن ينتج المحاصيل حتى في ظروف قلّة الأمطار. جعلت هذه الظروف أيضًا شعير النقب مناسبًا بشكل خاصّ لصناعة البيرة البريطانيّة. لصنع بيرة عالية الجودة، هناك حاجة لحبوب الشعير الغنيّة بالسكر والفقيرة بالبروتين، ولهذا الغرض يجب أن ينمو الشعير في تربة خفيفة، جافّة وفقيرة بالنيتروجين. بعبارة أخرى، إنّ ظروف التربة والمناخ غير المثالي للنقب هي التي جعلت الشعير الذي نما فيها مرغوبًا فيه لإنتاج البيرة.
في غياب الماء، كان الشعير قصير السيقان، مما أجبر البدو على اقتلاعه يدويًّا، وبالتالي اختلطت البذور بالتربة والأحجار المستخرجة من التربة مع الجذور. لاءمت الدورة الزراعيّة في النقب الطلب على المواد الخام في المملكة المتحدة لأنّها كانت تمامًا على عكس الدورة الزراعيّة في بريطانيا. ففي حين كان الشعير في المملكة المتحدة محصولًا صيفيًّا تم حصاده في أوائل الشتاء، كان الشعير في غزّة محصولًا شتويًّا تم حصاده في الربيع. وهكذا، كان الشعير في غزة قادرًا على الوصول كمحصول أول في العام إلى أسواق المملكة المتحدة وناسب القدرات الجديدة على إنتاج البيرة في أشهر الصيف بفضل الثلاجات التي، كما ذكرنا، دخلت مصانع البيرة. بين حصاد الشعير وبيعه لتجار غزة للتصدير، كان البدو يدفنون البذور في حفر أو أكوام من التراب. وبالتالي فإن الرمال الممزوجة بالحبوب نتيجة لاقتلاع نباتات الشعير والتخزين ملأت السنابل بذلك “الغبار” الذي أسفر عن إضراب واحد على الأقل للعمّال في موانئ لندن.
كان الوسطاء بين صانعي البيرة البريطانيين الذين طالبوا بموادّ خام عالية الجودة والبدو في النقب الذين كانوا قادرين على توفير هذا الطلب من التجار، بمن فيهم يهود الذين عاشوا في غزّة. خرج هؤلاء إلى مضارب القبائل البدوية بضعة أشهر في كلّ عام واشتروا الشعير الذي كانوا يحملونه على الجمال إلى شاطئ غزة، من هناك نقلوا الشعير بواسطة قوارب التجديف إلى السفن البخارية التي كانت ترسو على مسافة من الشاطئ. حصل هؤلاء التجار على ثروة صغيرة من تجارة الشعير، ولكن لماذا لم يتغلغل هذا النجاح إلى المدينة نفسها؟ تكمن الإجابة على ذلك في التغييرات الطويلة الأمد التي مرّت بها المدينة مع تحوّلها إلى مصدّرة للشعير. بسبب موقعها الجغرافيّ على طرف الصحراء، شكّلت غزة لعدّة قرون نقطة التقاء للقوافل التي نقلت التجارة بين مصر وسوريا، وكمورد للغذاء والإمدادات لقوافل الحجاج السنوية التي مرّت في شرق الأردن وسيناء. مع افتتاح قناة السويس، أصبحت طرق التجارة والحج بحريّة، وخلال عقدين فقدت غزة حركة النقل البري. كان ربط غزة بنظام التجارة البحرية للشعير بديلًا اقتصاديًّا جديرًا بالاهتمام منذ عدة عقود، لكنه على المدى الطويل قلّل من الإمكانيّات الاقتصاديّة للمدينة وربط مصيرها أكثر فأكثر بالمناخ غير المستقرّ في شمال النقب.
لاحظ الوكيل القنصليّ البريطاني في غزة ألكسندر كينزويتز هذا فور تعيينه في عام 1906: “يكسب معظم السكان في المدينة والمنطقة رزقهم من تجارة الشعير فقط”. بهذه الجملة القصيرة لخّص في التقرير الأول الذي كتبه حول سيرورة استمرت نصف قرن، “وبالتالي فإن حالة المحاصيل تؤثر بشكل مباشر على حالة الناس والمدينة “. نتيجة للاعتماد على تجارة الشعير، كانت غزة في أوائل القرن العشرين عرضة لتقلبات حادة بين أشهر التجارة المكثّفة في الصيف والسبات الاقتصادي الكلي تقريبًا في فصل الشتاء. جعل هذا الانتقال عبر التقويم والتقلبات بين السنوات الماطرة وسنوات القحط من الصعب على المؤسّسات التجارية مثل البنوك أو الوكالات التجارية أن يكون مقرّها في المدينة. في غياب الجدوى الاقتصادية، اكتفت الإدارة العثمانية بفرض ضرائب على صادرات الشعير وتخلّت مرارًا عن مبادرات التطوير المخطط لها. لقد ركز اهتمام الحكومة الآن على تطوير مدينة بئر السبع الجديدة التي تأسست عام 1900 (في السياق الجيو-سياسي، انظروا هنا أيضًا). وشعر مصنّعو البيرة في المملكة المتحدة أيضًا بعدم الاستقرار هذا، حيث إنّهم شككوا بالفعل، عشيّة الحرب العالمية الأولى، في قدرة المدينة على توفير المنتج بانتظام، وبعد ذلك انتقلوا للاعتماد على الإمداد الثابت والجودة العالية لشعير كاليفورنيا.
المشاهد القاتمة الذي رآها محرر مجلّة “فلسطين” في زيارته لغزة في عام 1912 بعد عدة سنوات من الجفاف، لم يكن قدرًا أو نتاجًا لـ “الحتميّة المناخيّة” إذ تطوّر اعتماد غزة على المناخ المتقلّب في شمال النقب على خلفية دورها الاقتصادي في الحيّز. تُظهر حالة غزة أنه من أجل فهم ازدهار المدينة أو تدهورها، من المهم فهم علاقتها بحيّزها الطبيعيّ، ولكن يجب أن يتم ذلك من منطلق الافتراض بأن هذه العلاقات ليست ببساطة “طبيعية”. هذه العلاقات، بدورها، هي نتاج السيرورات السياسيّة، الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي لها تاريخ يستحقّ سرده.
من كتب وعد بلفور؟
من خلال المقال يمكنكم تتبع التغييرات التي نجح القادة الصهاينة وغير الصهاينة في إدخالها على الوعد التاريخي؛ وعد بلفور والتي سبقت الاعلان الرسمي عنها.
كلما ترسخ وازداد الاستيطان اليهودي في البلاد، كان قادة اليشوف اليهودي يعلمون أن تحقيق رؤية الدولة اليهودية لن تتم دون دعم حقيقي من القوى العظمى في العالم وعلى رأسها الامبراطورية البريطانية.
ولذلك، حين نجحت بريطانيا في الحرب العالمية الأولى من هزيمة الوجود العثماني في البلاد والذي امتد لمئات السنين، سارع الدكتور حاييم وايزمان في تموز 1917 بتقديم مسودة إعلان للحكومة البريطانية والذي تعترف بموجبه بفلسطين كأرضٍ للشعب اليهودي، وتعترف في حقه بإقامة دولة يهودية فيها.
مع الأيام ستكون هذه المسودة هي وعد بلفور المشهور، وعد اللورد آثر جيمس بلفور والذي تقلد منصب وزير خارجية بريطانيا.
مر الوعد بعدد غير قليل من التغييرات التي قدمها الدكتور وايزمان لحكومة بريطانيا. حتى بداية تشرين الأول 1917 عملوا في وزارة الحرب البريطانية، وبتنسيق مع البعثة الصهيونية برئاسة وايزمان، على صيغة نهائية للوعد، حيث أزيلت منه قضية الحق بالأرض، وتحول فيه كلمة الدولة إلى “بيت قومي” وهو مصطلح غير مسبوق من الجانب القضائي والدبلوماسي.
شهر واحد قبل أن يسلم اللورد بلفور وبشكل رسمي وعده للورد روتشلد، أرسلت وزارة الحرب المسودة لبعض القيادات الصهيونية وغير الصهيونية، لكي تستشيرهم في الموضوع. من بين القيادات التي تم استشارتها: السير فيليب ماغنوس، وهو رجل دين إصلاحي وسياسيّ بريطاني مهم والذي طُلب منه ابداء رأيه على مسودة الوعد.
تحتفظ المكتبة الوطنية بالمسودة التي أرسلتها وزارة الحرب للراب ماغنوس. من خلال التمعن فيها، تظهر اختلافات كبيرة بينها وبين الصيغة النهائية، مثلاً: في الصيغة النهائية للوعد ترى حكومة جلالته بعين الاعتبار إقامة بيت قومي يهودية في فلسطين للشعب اليهود، في الصيغة التي سُلمت كان الحديث عن بيت لليهود فقط “للعرق اليهودي”.
من الممكن أن التعديل هذا كان تعبيرًا عن موافقة بريطانيا بأن ترى بالطلب الصهيوني، طلباً ذو ميزة قومية، بدلاً من طلب صاحب ميزة دينية أو حضارية، كما يتضح من الكلمات “العرق اليهودي”.
كانت رسالة الرد التي كتبها ماجنوس لوزارة الحرب محفوظة هي أيضاً في المكتبة الوطنية. وهي تشكل فرصة مميزة للاطلاع على أفكار اليهود البريطانيين غير الصهيونيين والكثر في تلك الفترة، منذ بداية الرسالة يسحب الراب والسياسي الأرض من تحت الأقدام حين طلب منه الرد كممثل يهودي، حيث رأى أن أفكاره كيهودي لا تنفصل عن أفكاره كبريطاني. يدعي ماغنوس في رده أنه ومنذ الاحتلال الروماني لفلسطين، توقف الشعب اليهودي على أن يكون جسماً سياسياً، ولذلك فهو اليوم يدير فقط علاقات دينية مشتركة والتي تحمل أية طموحات قومية مشتركة في فلسطين.
بدلاً من ذلك، يقترح ماغنوس صيغة بديلة للوعد، والتي تقضي بأن “حكومة جلالته ترى بعين الاعتبار إقامة مركز حضاري يهودي في فلسطين” هكذا بحيث لا يضر بحقوق أبناء حضارة أو دين آخر، أو بحقوق ومركز اليهود السياسي في البلاد الأخرى.
يبدو أن في هذا الأمر تكمن مساهمة ماغنوس الكبيرة في تعديل مسودة وعد بلفور. في نهاية الصيغة النهائية، توضيح مفصل غير موجود في مسودة السادس من تشرين الأول، وفيها أن إقامة البيت اليهودي القومي في فلسطين لا تضر بحقوق المواطنة لليهود في دول أخرى، وبالتالي أذعنت الحكومة لمطالب اليهود المناوئين للصهيونية، ومن بينهم فيليب ماغنوس.
أين يُحفظ الوعد الأصلي؟
عام 1924 سُأل اللورد روتشيلد، هل المكتوب الأصلي الذي وصله من اللورد بلفور في حوزته؟ في المكتبة وجدنا الإجابة لهذا السؤال؛ داخل رسالة أرسلها روتشيلد إلى يسرائيل كوهين، أحد أعضاء الهستدروت الصهيونية في بريطانيا، في الرسالة يشرح روتشيلدر أن المكتوب الأصلي ليس في حوزته، حيث – وبسبب أهميته التاريخية – قام بايداعه في المكتبة البريطانية حيث يُحفظ المكتوب هناك حتى يومنا هذا.
سكة حديد الحجاز: القطار الذي ربط قلب الإمبراطورية بأطرافها
بذلت الأمبروطورية العثمانية جهودًا جبارة لأجل إقامة خط سكة الحديد الحجازية، فربطت قلب الدولة مع أطرافها ووصلت إلى المدن المقدسة في الحجاز
بناء سكة حديد الحجاز ، تصوير كارل لورينز أولير، أرشيف المكتبة الوطنية الإسرائيلية
ما بين الرمال والسماء، يقف صف من العمال بجوار السكك الحديدية التي تم وضعها كخطين متوازيين يخترقان السهول والجبال والصحاري؛ على جسور معلقة وأنفاق شكلت حتى يومنا هذا تحفة معمارية شاهدة على الجهد الذي تم بذله في سبيل تحقيق هذا المشروع الضخم، مشروع امتد لسنوات طوال حتى اكتمل وربط شعوبًا ومناطق ببعضها البعض. لكن، من هنا يُطرح التساؤل:
لماذا بذلت الأمبروطورية العثمانية كل هذا الجهد، هل كان ذلك من أجل اللحمة الوطنية بين الشعوب العثمانية المختلفة أم كنوع من بسط السيادة على أطراف الأمبروطورية الشاسعة؟
تُظهر إحدى الصور بالأبيض والأسود القاطرات وهي تعبر جسرًا منخفضًا مقوسًا في وسط الصحراء. هذه الصور الغامضة هي جزء من ألبوم فريد من نوعه موجود في أرشيفات المكتبة الوطنية الإسرائيلية. يحتوي الألبوم على ثمانية وستين صورة فوتوغرافية التقطت في عام 1904 من قبل كارل لورينز أولير لسكة حديد الحجاز الشهيرة. والتي تمتد بين دمشق ومنطقة الحجاز في شبه الجزيرة العربية، خاصة لمكة المكرمة والمدينة المنورة، ومع خط فرعي يصل مدينة حيفا.
لقد تم بناء السكة الحديدية من قبل الإمبراطورية العثمانية بين عامي 1900 و 1908 لربط هذه المناطق النائية من عالمها. وتشكل صور”أولير” دليلًا مهمًا على مجريات البناء في المشروع.
ولكن ما الذي كان يقوم به أولير، الجنرال العسكري البروسي المخضرم، في فحص خط سكة حديد الحجاز للسلطان العثماني؟ وكيف وصل الألبوم إلى المكتبة الوطنية الإسرائيلية؟
يعتبر الحج رحلة روحية وسامية يلتزم بها كل مسلم، قادر من ناحية الجسد والإمكانية المادية، لأداءها مرة واحدة على الأقل خلال حياته. عندما قام النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) بفريضة الحج للمرة الأولى والوحيدة، قبيل وفاته، سافر بالقافلة وسار عبر الصحراء من العاصمة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة، على بعد أكثر من 400 كيلومتر. ولكن مع توسع الإمبراطورية الإسلامية بسرعة خلال القرن الهجري الأول، أصبحت مثل هذه الرحلات أطول وأكثر خطورة. آنذاك، كان المرض والإرهاق شائعين وكان قطّاع الطرق يهاجمون بانتظام الحجاج لكونهم يشقون طريقهم عبر الصحراء وصولًا للأراضي الحجازية.
من أجل تقليل هذه المخاطر ، انضم معظم الحجاج خلال الفترات الإسلامية الوسيطة والمتأخرة إلى قوافل الجمال المنظمة والتي سافرت على طرق تم تحديدها مسبقًا. كانت القوافل تنطلق من مدينة الكوفة جنوب العراق، من القاهرة ومن دمشق (كانت تعتبر من أهم القوافل). أدى إدخال الباخرة في منتصف القرن التاسع عشر إلى تخفيف قسوة رحلة الحج، خاصة بالنسبة للحجاج القادمين من الهند، التي كانت ترزح تحت الحكم الاستعماري البريطاني. لكن هذا التطور في وسائل النقل ساهم بشكل مباشر في ظهور جائحة عالمية وهي الكوليرا، إذ تم نقل الكوليرا، الموجودة في الهند، إلى مكة المكرمة من قبل الحجاج عام 1863، ومن هناك انتشر إلى جميع أنحاء العالم. وهذا أدى إلى نشوء في حالة من القلق، مما حدا بالقوى الاستعمارية الأوروبية إلى فرض أنظمة الحجر الصحي الصارمة على أولئك الذين يصلون من مكة ومحيطها.
الدولة العثمانية وتصديها للأطماع الأجنبية
كان تجاوز إجراءات الحجر الصحي ومواجهة الاستعمار الأوروبي قد شكل دافعًا رئيسيًا وراء بناء سكة حديد الحجازـ إذ أنه في العقود التي سبقت إعلان السلطان عبد الحميد الثاني عن بناء سكة حديد الحجاز، في الأول من أيار 1900، فقد العثمانيون أراضيهم الواسعة تقريبًا في جنوب أوروبا. فكانت المصالح الفرنسية والبريطانية والروسية تتنافس لتفتيت الإمبراطورية أكثر فأكثر، ولم تكن الدولة العثمانية تستطيع المجابهة سياسيًا أو حتى اقتصاديًا، فهي كانت مدينة بشكل كبير للممولين الأوروبيين، واضطرت إلى الاعتماد على الدائنين الأوروبيين لتمويل البنية التحتية وجهود التحديث والتطوير، بما في ذلك بناء خطوط سكك حديدية أخرى لربط الإمبراطورية الشاسعة.
السكة الحجازية؛ صورة لانعكاس استقلالية السلطان عبد الحميد الثاني أم وسيلة لتثبيت حكمه؟
لقد كانت سكة حديد الحجاز مختلفة عن الخطوط الأخرى، حيث أن الخط لم يكن له فائدة اقتصادية تذكر – بل كان يعمل بشكل منتظم فقط خلال موسم الحج – إلا أن له العديد من الأهداف السياسية والدينية. فقد تم تمويل المشروع بالكامل من قبل المسلمين، وتم جمع التبرعات من أجل “الخط المقدس” في جميع أنحاء العالم. هذه الحقيقة التي تم نشرها على نطاق واسع، بالإضافة إلى مشروع الإنشاء نفسه، قد صقلت قوة عبد الحميد الثاني وصورته الإسلامية كحاكم مسلم مستقل وحيد يواجه المصالح الأوروبية. ولا ننسى قدرة السكة الحجازية على تخفيف قسوة ظروف الحج نفسه، كذلك سيضمن الخط أيضًا أن الجيش العثماني يمكنه نشر القوات والإمدادات بسرعة لحماية الشحن في البحر الأحمر والدفاع ضد التوسع الاستعماري والتحركات نحو التمرد من قبل الزعماء المحليين، خاصة في مكة.
لقد كان للمهندسين والمستشارين الألمان دورًا حاسمًا في تخطيط وبناء السكك الحديدية. وكان يعكس هذا الدور العلاقة المتينة بين العثمانيين والألمان والتي استمرت لعقود من التعاون العسكري والاقتصادي؛ ولعدة أسباب، رأى عبد الحميد ألمانيا كشريك أوروبي مفضل للإمبراطورية.
في هذا السياق، أصبح كارل أولير مرتبطًا بالمشروع. ولد أولير عام 1854، وكان قد خدم جنرالًا للمشاة ببروسيا ومن ثم أصبح (مثل العديد من الضباط الآخرين) مستشارًا عسكريًا للعثمانيين بين عامي 1901 و 1908. تم تعيينه في رتبة لواء من قبل عبد الحميد، وأصبح معروفًا بلقب “أولير باشا”. عام 1904 تم إرساله لتفقد التقدم الذي تم تحقيقه في مشروع السكك الحديدية، ودراسة الجغرافيا المحلية والإثنوغرافيا.
ركز أولير على خطين من السكك الحديدية: الخط بين دمشق ومعان في جنوب الأردن، بما في ذلك خط الفرع إلى حيفا، ومن معان إلى العلا في شبه الجزيرة العربية (تقع محافظة العلا على بعد 300 كيلومتر شمال المدينة المنورة). تعد التقارير التي كتبها أولير من بين أهم المصادر الأولية حول سكة حديد الحجاز، والتي تمتاز بدقتها وشمولها لأدق التفاصيل كتضاريس الطريق، النباتات والحيوانات، بما في ذلك النمل الأبيض الذين ينخر في العوارض الخشبية لسكة الحديد؛ كذلك شمول التفاصيل حول التحديات في توفير ما يكفي من الماء والوقود؛ وردود الفعل (ربما النمطية) للسكان المحليين على بناء السكك الحديدية (ترجمة بيتر كريستيانسن):
“ستظل الحيوية التي عبروا عن فرحتهم بها لا تُنسى. كما كرر الرجال باستمرار التحية في جوقة بالإجماع، “فلينتصر السلطان ثلاث مرات!”
تقارير أولير، التي نُشرت في أعوام 1906 و 1908 في المجلة المؤثرة “Petermanns Geographische Mitteilungen” تم توضيحها بصور التقطها هو بنفسه على طول الطريق. يبدو أن الألبوم في مجموعة المكتبة الوطنية يحتوي على المطبوعات الإضافية من تلك الرحلة التي اعتبرها، لسبب من الأسباب، غير مناسبة للنشر. بينما تتداخل مواضيع مجموعتي الصور إلى حد كبير ، يتضمن الألبوم المزيد من الصور الشخصية – للبدو والسكان المحليين والعمال والمسؤولين وغيرهم – مما يوفر لمحات رائعة للأفراد والحياة اليومية.
كيف وصلت الصور إلى المكتبة الوطنية الإسرائيلية ؟
في حين أننا لا نعلم ماذا فعل أولير بالصور بعد عودته إلى ألمانيا عام 1908، لكن من المعلوم بأنه خدم في الحرب العالمية الأولى ثم تقاعد في مدينة أولم، بينما- بطريقة ما- شقت مجموعة الصور طريقها نحو طريقهم إلى إلياكيم غوتهولد ويل (1882-1960)، الذي كان ألمانيًا يهوديًا باحثًا في الإسلام، خاصة في الثقافة التركية والعربية، ومدير سابق للمكتبة الوطنية في إسرائيل. درس ويل في برلين وفرانكفورت قبل الهجرة إلى فلسطين عام 1934، وعلى الرغم من عدم ذكر أوريل في أرشيف ويل الشخصي، الموجود الآن في المكتبة، لكنه من الممكن أن يكون هذا الألبوم الفريد من نوعه قد تم تقديمه من أولير لويل كهدية شخصية والذي بعد ذلك تبرع بها لمجموعة المكتبة عام 1936.
يعد هذا المقال جزءًا من مشروع مكتوب للمخطوطات الإسلامية الرقمية في المكتبة الوطنية الإسرائيلية، بدعم من صندوق أركاديا، سيوفر مكتوب وصولًا مجانيًا وعالميًا لأكثر من 2500 مخطوطة وكتب عربية وفارسية وتركية نادرة محفوظة في المكتبة، كذلك القصص الكامنة وراء إنشائها.