أبصر سميح القاسم النور عام 1939 في مدينة الزرقاء بالأردن، لوالدٍ برتبة كابتن بالجيش الأردني. وقد كانت أسرته مؤلفة من الأب والأم وستة أخوة وست أخوات، يقول سميح عن طفولته الأولى، أنه عند انتهاء الحرب العالمية الثانية عادت الأسرة إلى بلدتهم الأصلية الرامة في الجليل الأعلى، حيث درس الابتدائية في دير اللاتين، المدرسة الروسية القديمة، ثم المرحلة الإعدادية في المدرسة الحكومية، وأكمل المرحلة الثانوية في الناصرة، ولاحقًا درس في أكاديمية موسكو الفلسفة والاقتصاد السياسي.
يحكي سميح القاسم عن أصول أسرته بأنهم يعودون في الأصل إلى الفاطميين الموحدين، وأن عائلته كبيرة وموزعة بين فلسطين وسوريا ولبنان. تزوج سميح وأنجب أربعة أولاد أسماهم: وطن محمد، وضاح، ياسر، عمر. علَّم في بداية حياته، ثم انصرف إلى نشاطه السياسي في الحزب الشيوعي، وتابع على التوازي نشاطه الأدبي، واعتقل عدة مرات ووضع تحت الإقامة الجبرية بسبب مواقفه ومقاومته ورفضه التجنيد الإجباري للدروز.
اقرأوا أيضًا: دالية الكرمل – من تمرّد جبل لبنان حتّى حلف الدّم مع إسرائيل
عمل عاملًا ومعلّمًا في مدينة حيفا، لكنه سرّح لاحقًا بسبب شعره، وانتقل بعد ذلك للعمل في مجال الصحافة، حيث أسهم في تحرير مجلتي الغد والاتحاد، ثم تولى رئاسة مجلة “هذا العالم” عام 1966، ثم عاد للعمل محررًا في صحيفة الاتحاد، وسكرتيرًا لصحيفة “الجديد” ثم رئيسًا لها، كما أسس منشورات “عربسك” 1973 وتولى رئاسة المؤسسة الشعبية للفنون في حيفا.
وقد تأثر شعر القاسم من خلال انتماءاته المختلفة الّتي تقلّبت واختلفت خلال حياته مثله كمثل بقية الشعراء والأدباء من جيله، حيث بدأ حياته بميول قومية واضحة لكنه سرعان ما انضم للحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح) ليظل عضوًا فيه حتى نهاية الثمانينيّات، حيث قدم استقالته من الحزب وتفرغ للعمل الصحفي والأدبي كليًا.
وقد كتب القاسم عشرات الكتب الشعرية في سنوات حياته، حيث اختصت بقضايا الشعب الفلسطيني بشكل عام، وبأحوال الفلسطينيين في إسرائيل أيضًا، من هذه الكتب: مواكب الشمس 1958، أغاني الدروب 1964، إرَم 1965، دمي على كفي 1967، دخان البراكين 1968، إسكندرون في رحلة الخارج ورحلة الداخل 1970، قرآن الموت والياسمين 1971، الموت الكبير 1972، وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم 1976، كولاج 1983، عجائب قانا الجديدة 2006، وغيرها عشرات من الكتب ومئات من القصائد.
وقد توفي سميح القاسم بعد صراع مع مرض سرطان الكبد لمدة ثلاث سنوات وذلك في 19 أغسطس 2014.
اللّغة في شعر سميح القاسم
يستطيع الشاعر من خلال اللعب بأوتار اللغة التعبير عن نفسه ومواقفه، أفكاره وعواطفه وأحاسيسه وتوجهاته، فهي غطاء مرن للاختباء تحتها ونقل رسالة بصورة غير مباشرة، فالاستخدام الجيد للغة يحيل بالكاتب إلى التفرد، حتى يخيل للقارئ بأن هذا اللفظ أو الاستعارة اللغوية هي من اختراع الشاعر، على الرغم من أنه كان يعرفها مسبقًا.
وقد التزم سميح القاسم كمعظم شعراء عصره بلغة مباشرة دون مواربة، خاصةً في السنوات الأولى لكتابة الشعر، فقد كانت نوعية الكتابة لدى الشعراء في ذلك الجيل صيغة المباشرة دون الاختفاء خلف العبارات المنمقة والاختصارات الشعرية المختلفة. وقد اعتمد سميح القاسم هذا الأسلوب في التعبير عن أفكاره وتوجهاته وقضايا شعبه الّتي تشغله ويفكر فيها.
وقد جاء المعجم اللغوي الخاص بشعر سميح القاسم مستقى من الواقع المعيش لشعبه، حيث جاءت مفرداته كلها متعلقة بالشعب والوطن والثورة من خلال ألفاظ مختلفة منها: الوطن، الشهادة، الحرب، الحرب، السجن، الأرض، الثورة، العذاب، الانتصار، الطفل، الحجارة.. وتواجد مثل هذه المصطلحات في شعر سميح القاسم يعد طبيعيًا نسبةً إلى طبيعة تجربته وتوجهاته الفكرية.
ويتضح استخدامه لمثل هذه المصطلحات من خلال التالي:
“وانشّق عن صوت علاء الدين
ميلاد الحساسين الجوارح
أنا ألقيت على سيارة الجيش الحجارة
أنا وزّعت المناشير
وأعطيت الإشارة
أنا طرّزت الشعار
ناقلًا كرسيِّ”
التكرار: وهي ظاهرة من ظواهر الشعر الحديث الّتي بدأت في الانتشار في بداية القرن العشرين، وإن كانت جذورها تمتد إلى الشعر العربي القديم، فقد استخدمه العرب قديمًا. وهو من أهم الوسائل الّتي تلعب دورًا توضيحيًا في القصيدة، فتكرار لفظة ما أو عبارة ما يوحي بسيطرة هذا العنصر المكرّر وإلحاحه على فكر الشاعر.
ويمثل التكرار إحدى الظواهر الفنية الّتي برزت في شعر سميح القاسم، وقد تنوعت مظاهره في القصائد بحسب الحالة النفسية والشعورية الّتي ألمت بالشاعر لحظة الكتابة، إذ أن هناك بعض الموضوعات والصور الّتي تلحّ عليه في لحظة ما، فيكررها بغية التأثير في المتلقي أو الكشف عن الشعور الباطن الذي يسكنه، ومن الأمثلة على ذلك:
“قيل لي إنهم دُفنوا
وأُهيل لحاف التراب على الجثث النائمة
قيل لي إني واهم
وأنا أبصر الدم واللحم في الساحة الواهمة
ليتني واهمٌ أنني واهم
ليتني موقنٌ أنها يقظتي الحالمة”
حيث يعبر في هذه القصيدة عن رعبه عند رؤية الدم والجثث في قانا، وبتكراره اللفظي “ليتني” و “واهم” يحاول إقناع نفسه بأن هذا مجرد حلم لم يحدث.
استخدام الألفاظ العامية والأجنبية: اعتمد الشعراء في كثيرٍ من الأحيان استخدام اللغة العامية والمستخدمة اليومية من أجل إيصال المعنى والانفعالات، فاتجهوا إلى الاستفادة من المعجم العاميّ العربيّ وذلك انعكاسًا لطبيعة الموضوعات الّتي عالجوها. تقول سلمى الجيوسي: “إن اللهجة والمواقف في الشعر تغيرت بشكلٍ مباشر تحت تأثير الجو السياسي في الزطن العربي”.
وقد استخدم سميح القاسم العامية شعره بكثرة، وذلك بسبب الموضوعات الّتي عالجها من خلاله، على سبيل المثال قوله:
“وتعالوا
أحكموا فكّ الكلبشة”
فقد استخدم هنا اللفظ كلبشة في إشارة إلى القيد أو الأصفاد المستخدمة عند الاعتقال من الشرطة. وفي أبياتٍ أخرى يقول:
“أبي مات..
بيّي، أنا فاديه”
وقد جاء استخدام لفظة “بيي” بصورة محببة ومقربة إلى المتلقي، حيث تعني أبي في عامية بلاد الشام وفلسطين.
التناص كمحاولة للاختفاء خلفه
يبرز التناص كظاهرة لغوية واسعة الانتشار في الأدب العربي الحديث، ويعتمد في تمييزها على ثقافة المتلقي ومدى اطّلاعه وقدرته على الترجيح. والتناص هو أن نصّ أدبي ما نصوصًا أو أفكارًا أخرى سابقة عليه من خلال الاقتباس أو التضمين أو التلميح أو الإشارة، فهو مرتبط بثقافة الأديب. وتشترك جميع نظريات التناص في أنها تعير اهتمامًا بالغًا بالخلفية المعرفية للمبدع في عمليتي انتاج الخطاب أو تلقيه، غير أن الكاتب لا يستدعي “الأحداث والتجارب السابقة كلها وإنما يعيد بناءها وتنظيمها وإبراز بعض العناصر منها أو إخفائها بحسب الحاجة”.
ويعدّ سميح القاسم من أبرز الشعراء الّذين استخدموا التناص في شعرهم، حيث لجأ إلى استخدامه بمختلف أنواعه، وقد حضر بشكلٍ قوي من خلال التناص الديني والتناص الأسطوري. وقد جاء التناص الديني الأكثر تأثيرًا في شع القاسم، حيث ارتبط الدين بالوجدان الإنساني ارتباطًا عميقًا. وقد تعامل الشعراء العرب والفلسطينيين مع التراث الديني الإسلامي لما له من تأثير قوي وعميق في نفوس الناس، حيث اقتبس سميح القاسم من القرآن الكريم العديد من الآيات والشخصيات والقصص والأحداث. حيث يقول:
“دعهم، فإن ضلالهم سوف يرافقهم إلى اليوم الأخير
جالد إذا أفلحت، منتزعًا خطاك من الوحول الداميات
وعد إلى فردوسك المهجور، للجنات تجري تحتها
الأنهار، للقصر الكبير”
حيث اقتبس الشاعر “للجنات تجري من تحتها الأنهار من الآية: ﴿جزاؤهم عندَ ربّهم جنّات عدنٍ، تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا﴾
وفي موضعٍ آخر يقتبس من الآية ﴿إرمَ ذات العماد﴾ في قصيدة “أنادي الموت” حيث يقول:
“أبدًا تجذب وجهي بالنداءات الخفية
لمكانٍ خلف أسوار الشقاء
فيه شيّدت قصوري الذهبية
إرمي ذات العماد..
إرمي.. أمنحها من كل قلبي للعباد”
ومثل هذه الأمثلة العشرات في قصائد سميح القاسم المختلفة، وهي تدلل بشكلٍ خاص على أسلوبه المتفرد في الشعر في عصره. كما يعد القاسم من أكثر الشعراء الفلسطينيين شيوعًا، نظرًا لتجربته الفذة وحسه الإنساني وتجسيده لقضية شعبه بشكلٍ جلي في أشعاره.