زخرون يعقوب: كيفَ تُحيا الأراضي وهي رَميم

نقدم لكم في هذا المقال نبذة عن تاريخ واحدة من أول الكيبوتسات في اسرائيل، زيخرون يعكوب

زيخرون يعكوب، 1927،مجموعة روزا جوردون.

زيخرون يعكوب، 1927،مجموعة روزا جوردون.

في كانون الأول 1882، قَدِمَت مجموعة من اليهود الرومانيين، في رحلة نظمتها اللجنة المركزية للاستيطان في فلسطين وسوريا التابعة لأحباء صهيون الى مدينة حيفا وأخذوا أرضًا في التضاريس الصخرية والقاسية لقرية زَمارين، على أمل السكن والزراعة في المنطقة. لكن الرياح لم تأت بما تَشتهي سُفنهم، اذ أنَّ الأرضَ كانت صَعبة الزراعة، وأدى تفشي الملاريا إلى وفاة العديد من المستوطنين الأوائل، بما في ذلك الأطفال. وفي غضون عام، اضطر الكثيرون منهم للمغادرة، بسبب هذه الظروف القاسية.

وفي عام 1883، وصل الخلاص للمستوطنين على يَد البارون إدموند جيمس دي روتشيلد. قدّم البارون دعمه، وبدأ خططًا لتحويل الأرض للاستخدام الزراعي وإنشاء مجتمع سكني. وتحت رعايته تم تغيير اسم زمّارين إلى زخرون يعقوب، تكريما لوالده البارون جيمس (يعقوب) ماير دي روتشيلد.

وبتوجيه احترافي، شُقَّ شارعٌ رئيسي وأُحيطَ به منازل مستوحاة من الطراز الفرنسي ذات أسطح قرميدية حديثة. يتميز كل مسكن بفناء طويل ومساحة خلفية للزراعة. اليوم، يُعرف هذا الشارع باسم ميدراهوف، وهو طريق مشاة صاخب تصطف على جانبيه المقاهي والمتاجر المتخصصة، ويجذب السياح والسكان المحليين على حد سواء.

تولى إيليا شيد، كاتب البارون المخلص، إدارة المستعمرة الزراعية. تأكد من حصول المزارعين على أجور عادلة ووجّه ادارة الاقتصاد الزراعي وفق رؤية البارون. المبنى الذي يضم المكاتب الإدارية، حيث أقام البارون وزوجته أثناء زياراتهما، أصبح الآن بمثابة متحف “الهجرة الأولى”.

وامتدت مساهمات البارون إلى الحياة الروحية أيضًا. اذ بنى كنيس أوهيل يعقوب تكريما لوالده، وأصبح الكنيس بمثابة حجر الزاوية في المجتمع، حيث تتم الصلوات والفعاليات الدينية اليومية.

أدت بصيرة البارون أيضًا إلى إنشاء أول مصنع نبيذ في إسرائيل، مصنع نبيذ الكرمل-مزراحي. وعلى الرغم من النجاح الأولي، إلا أن تفشي نبات الفيلوكسيرا في عام 1892 دمر كروم العنب. ومع ذلك، فإن إدخال شتلات أمريكية مقاومة لنبات الفيلوكسيرا أدى إلى تجديد مصنع النبيذ الذي يستمر في الازدهار ويرحب بالزوار حتى اليوم.

كان نمو زخرون يعقوب ثابتًا، وعززه في عام 1912 وصول مهاجرين جدد من اليمن، ولا يزال العديد من أحفادهم يقيمون في المدينة. في فترة الانتداب البريطاني، تضاعف الانتاج الزراعي والتبغ والزيتون والزهور لصنع العطور. بعد قيام دولة إسرائيل في عام 1948، ارتفع عدد سكان البلدة، ليصل إلى 4200 بحلول عام 1951 واستمر في النمو إلى ما يقرب من 23000 اليوم.

تُعد بلدة زخرون يعقوب الحديثة مزيج نابض بالحياة من التاريخ والسحر المعاصر. اذ تضم حدائق روتشيلد التذكارية في “رماَتْ هَنَديف”، وهي محمية طبيعية جميلة، قبور البارون وزوجته. كما تمد زيارة مصنع النبيذ الكرمل، الزوار بتراث البلدة الغني.

“إذا المحبّة أومت إليكم فاتبعوها”: وصايا الحبّ في كتاب “النبيّ” لجبران

نقدّم لكم في هذا المقال سبرًا لعمق الحبّ في كتاب "النبيّ" لجبران خليل جبران (1883-1931)، الذي يُعتبر أشهر كتبه، ورائعته الأدبيّة العالميّة التي تُرجمت إلى عشرات اللغات.

جبران خليل جبران

جبران خليل جبران

نشر جبران خليل جبران كتابه “النبيّ” باللغة الإنكليزيّة عام 1923، وقد حقّق له شهرةً عالميّة، وتُرجِم إلى أكثر من 50 لغة، من بينها العربيّة التي ترُجِم إليها عدّة ترجمات. وضع في هذا الكتاب خلاصة حياته وتجربته، وقد اعتبر أنّ روحه كتبته منذ الأزل، وقال عنه أيضًا: “شغل هذا الكتاب الصغير كلّ حياتي. كنتُ أريد أن أتأكّد بشكلٍ مطلق من أن كلّ كلمة كانت حقًا أفضل ما أستطيع تقديمه“.

كتب جبران كتابه بلغةٍ شعريّةٍ عذبة، وبأسلوبٍ أدبيّ قابلٍ للتأويلات العميقة يذكّر بالكتب الدينيّة كالإنجيل والأسفار المقدّسة. ونشعر أثناء القراءة بانفتاح أفق الكتاب على مناطق ثقافيّة وإنسانيّة واسعة، كالصوفيّة ووحدة الوجود ومعاني الحبّ العابرة للحضارات، وكالرومانسيّة ممثّلةً بتقديسها للطبيعة، وبمفهومها عن الشاعر النبيّ الخلّاق.

الإعلان 25.10.1926

جريدة الإعلان، 25 تشرين الأوّل 1926*


يبدأ الكتاب من نقطة النهاية، من اللحظة التي تصل فيها سفينةٌ إلى المدينة الخياليّة أورفاليس، لتعيد النبيّ -المسمّى في الكتاب “المصطفى”، والموصوف بأنّه “المختار الحبيب”- إلى وطنه، بعد أن قضى في هذه المدينة 12 عامًا. وعندما يعلم السكّان بالأمر، يهرعون إليه، طالبين منه ألّا يغادرهم، لأنّ “المحبّة لا تعرف عمقها إلّا ساعة الفراق“. لكنّه لا يستطيع البقاء أكثر، لأنّ البقاء يعني لديه الجمود، وعليه أن يمضي إلى الآفاق الواسعة كالموج الذي لا يهدأ. حينها، يطلب منه السكّان أن يحدّثهم حديثًا أخيرًا نابعًا من حبّه لهم عن الحقيقة التي يعرفها، المحفور حبّها وشوقها في نفوسهم.

 قد تكون مدينة أورفاليس رمزًا للدنيا، وأهلها رمزًا للبشر، والسفينة رمزًا للموت، الذي يحمل الميّت إلى وطنه، إلى الأمّ الأزليّة كما يصفها، وإلى البحر اللامتناهي الذي يرمز بالأدب الصوفيّ إلى الله. وقد يكون النبيّ هنا رمزًا للصوفيّ، أو الشاعر كما وصفته المدرسة الرومانسيّة، وربّما أيضًا حين نتأمّل حبّه لأهل المدينة وتأجيله للرحيل كثيرًا وأمنيته أن يصحبهم معه، يُذكّرنا ذلك بالبوديساتفا في البوذيّة، وهو شخصٌ يؤجّل استنارته الكاملة كي يساعد الآخرين، نتيجة عطفه وحبّه لهم، في أن يصلوا الحقيقة وينالوا الاستنارة.

وكما يلخّص كتاب النبيّ حياة جبران وتجربته، فإنّ الحبّ يلخّص هذا الكتاب. فهو أوّل ما يتحدّث النبيّ عنه في حديثه الأخير لأهل مدينته، بعد أن تسأله عنه “ألمِطرا”، أبرز شخصيّةٍ بعده في الكتاب، وقد كانت هذه المرأة الكاهنة أوّل من عطف عليه وآمن به يوم وصوله إلى المدينة. والحبّ أيضًا موجودٌ إمّا بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرةٍ في كلّ أجوبة النبيّ على أسئلة سكّان المدينة عبر فصول الكتاب.

الاتحاد 21.11.1994

الاتحاد، 21 تشرين الثاني 1994*

يأمرنا نبيّ جبران منذ البداية أن نتبع الحبّ دائمًا، حتّى لو كان نداؤه إلينا، لا بصوتٍ جهورٍ مباشر، بل بمجرّد الإشارة. لكنّه يحذّرنا في الوقت ذاته بأنّ الحبّ ليس سهلًا، لأنّ طرقه صعبةٌ ووعرة وكثيرة المزالق. فالحبّ لدى نبيّ جبران هو الشيء ونقيضه معًا، هو نعومة ريش الأجنحة، وهو أيضًا السيف الجارح المختبئ بين هذا الريش. وكأنّ جبران حين يقول على لسان نبيّه بأنّ الحبّ يكلّل الإنسان بالمجد، لكنّه أيضًا يصلبه، أراد أن يُشير إلى هذه الآية من إنجيل يوحنا عن صلب المسيح: “لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ“، لكنّ الفرق لدى جبران أنّ هذا الحبّ الذي يؤمّن الحياة الأبديّة رغم جراحه القريبة من آلام الموت على الصليب، هو حبٌّ ليس مقتصرًا على الآلهة، بل يستطيعه جميع الناس، نظرًا لإيمان جبران، كما يظهر في كتابه، بقوّة قلب الإنسان، وبوحدة الوجود، وبوجود نفسٍ عليا داخل كلٍّ منّا، وقطرةٍ لامتناهية من البحر الإلهيّ الأبديّ.

وحين يكمل النبيّ وصفه للحبّ، يشبّهه بعمليّة الخَبز، فهو يضمّنا إليه كحزمة قمح، ويدرسنا على البيادر ليعرّينا من غرورنا، وهو يغربلنا ليخلّصنا من القشور التي نحبس أنفسنا داخلها، ثمّ يطحننا ليجعلنا أنقياء كالثلج، ثمّ يعجننا بالدموع كي نلين، ثمّ أخيرًا يسلّمنا إلى ناره المقدّسة فنصير خبزًا من حبٍّ يليق بأن يقدّم على مائدة الربّ. وفي هذه الأوصاف جميعها ندرك أنّ الحبّ لا يصنع منّا نسخًا أفضل من أنفسنا، إلّا بالألم (الطحن) أو بالحزن (الدموع)، وبأنّ على نار شوقه أن تحرقنا كي نكون جزءًا من مائدة الله اللانهائيّة. ونلمح مرّةً أخرى إشاراتٍ إنجيليّة تذكّرنا بالعلاقة بين الخبز وجسد المسيح، وبقول المسيح بأنّ من يأكل خبزه يحيا إلى الأبد.

ثمّ يحذّرنا نبيّ جبران بأنّنا إن كنّا لا نمتلك الشجاعة على تحمّل مشاقّ الحبّ، ولا نبحث فيه إلّا على الطمأنينة واللذة، فالأولى أن نغادر بيدر الحبّ إلى “عالمٍ لا تتعاقب فيه الفصول، حيث تضحكون، لكن ليس كلّ ضحكم، وتبكون، لكن ليس كلّ دموعكم“. وربّما قصد جبران بذلك أنّ الحياة بلا حبٍّ، وبلا ألم الحبّ ولذّته، ستشبه في رتابتها عالمًا بفصلٍ واحد لا يتجدّد، وسيعيشها الإنسان على السطح فقط، بفرحٍ لا يغوص إلى الأعماق، وبحزنٍ لا يأخذه إلى نبع الدموع داخله، فبالحبّ وحده يعيش أقصى طاقاتها وعواطفها.

وقبل أن ينهي النبيّ عظته عن الحبّ، وقبل أن ينهي جبران كتابة فصله الأوّل عن الحبّ الذي يلخّص الكتاب كأنّ باقي الفصول تذوب فيه، يؤكّد لنا أنّ الحبّ ليس تملّكًا، وليس سلبًا لحريّة الآخر، فالحبّ لا يملك إلّا ذاته، ولا يعطي إلّا ذاته، وهو مكتفٍ بها، وهو يقودك إن وجدك خليقًا له، ولا تقوده، فكأنّه يقصد أنّ علينا تسليم أنفسنا إليه، كما يسلّم الصوفيّ أمره لله يفعل به ما يشاء، لأنّ الحبّ، كما يقول نبيّ جبران، هو الذي يُذيبُ الإنسان في قلب الله الذي يسع كلّ شيء.

تستطيعون أن تستمعوا إلى مقتطفاتٍ عن الحبّ من كتاب النبيّ بغناء فيروز هنا:
https://www.youtube.com/watch?v=0WKMnEflR50


* للمزيد حول “جبران خليل جبران” في موقع “جرايد” أرشيف الصحف الفلسطينية التاريخية

مستخدمًا التناص للوصول إلى الأدب؛ مسيرة سميح القاسم الأدبية

العشرات في قصائد سميح القاسم المختلفة، وهي تدلل بشكلٍ خاص على أسلوبه المتفرد في الشعر في عصره وبالذات التناص الأدبي.

سميح القاسم

الشاعر سميح القاسم

أبصر سميح القاسم النور عام 1939 في مدينة الزرقاء بالأردن، لوالدٍ برتبة كابتن بالجيش الأردني. وقد كانت أسرته مؤلفة من الأب والأم وستة أخوة وست أخوات، يقول سميح عن طفولته الأولى، أنه عند انتهاء الحرب العالمية الثانية عادت الأسرة إلى بلدتهم الأصلية الرامة في الجليل الأعلى، حيث درس الابتدائية في دير اللاتين، المدرسة الروسية القديمة، ثم المرحلة الإعدادية في المدرسة الحكومية، وأكمل المرحلة الثانوية في الناصرة، ولاحقًا درس في أكاديمية موسكو الفلسفة والاقتصاد السياسي.

يحكي سميح القاسم عن أصول أسرته بأنهم يعودون في الأصل إلى الفاطميين الموحدين، وأن عائلته كبيرة وموزعة بين فلسطين وسوريا ولبنان. تزوج سميح وأنجب أربعة أولاد أسماهم: وطن محمد، وضاح، ياسر، عمر. علَّم في بداية حياته، ثم انصرف إلى نشاطه السياسي في الحزب الشيوعي، وتابع على التوازي نشاطه الأدبي، واعتقل عدة مرات ووضع تحت الإقامة الجبرية بسبب مواقفه ومقاومته ورفضه التجنيد الإجباري للدروز.

اقرأوا أيضًا: دالية الكرمل – من تمرّد جبل لبنان حتّى حلف الدّم مع إسرائيل

عمل عاملًا ومعلّمًا في مدينة حيفا، لكنه سرّح لاحقًا بسبب شعره، وانتقل بعد ذلك للعمل في مجال الصحافة، حيث أسهم في تحرير مجلتي الغد والاتحاد، ثم تولى رئاسة مجلة “هذا العالم” عام 1966، ثم عاد للعمل محررًا في صحيفة الاتحاد، وسكرتيرًا لصحيفة “الجديد” ثم رئيسًا لها، كما أسس منشورات “عربسك” 1973 وتولى رئاسة المؤسسة الشعبية للفنون في حيفا.

وقد تأثر شعر القاسم من خلال انتماءاته المختلفة الّتي تقلّبت واختلفت خلال حياته مثله كمثل بقية الشعراء والأدباء من جيله، حيث بدأ حياته بميول قومية واضحة لكنه سرعان ما انضم للحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح) ليظل عضوًا فيه حتى نهاية الثمانينيّات، حيث قدم استقالته من الحزب وتفرغ للعمل الصحفي والأدبي كليًا.

وقد كتب القاسم عشرات الكتب الشعرية في سنوات حياته، حيث اختصت بقضايا الشعب الفلسطيني بشكل عام، وبأحوال الفلسطينيين في إسرائيل أيضًا، من هذه الكتب: مواكب الشمس 1958، أغاني الدروب 1964، إرَم 1965، دمي على كفي 1967، دخان البراكين 1968، إسكندرون في رحلة الخارج ورحلة الداخل 1970، قرآن الموت والياسمين 1971، الموت الكبير 1972، وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم 1976، كولاج 1983، عجائب قانا الجديدة 2006، وغيرها عشرات من الكتب ومئات من القصائد.

وقد توفي سميح القاسم بعد صراع مع مرض سرطان الكبد لمدة ثلاث سنوات وذلك في 19 أغسطس 2014.

اللّغة في شعر سميح القاسم

يستطيع الشاعر من خلال اللعب بأوتار اللغة التعبير عن نفسه ومواقفه، أفكاره وعواطفه وأحاسيسه وتوجهاته، فهي غطاء مرن للاختباء تحتها ونقل رسالة بصورة غير مباشرة، فالاستخدام الجيد للغة يحيل بالكاتب إلى التفرد، حتى يخيل للقارئ بأن هذا اللفظ أو الاستعارة اللغوية هي من اختراع الشاعر، على الرغم من أنه كان يعرفها مسبقًا.

وقد التزم سميح القاسم كمعظم شعراء عصره بلغة مباشرة دون مواربة، خاصةً في السنوات الأولى لكتابة الشعر، فقد كانت نوعية الكتابة لدى الشعراء في ذلك الجيل صيغة المباشرة دون الاختفاء خلف العبارات المنمقة والاختصارات الشعرية المختلفة. وقد اعتمد سميح القاسم هذا الأسلوب في التعبير عن أفكاره وتوجهاته وقضايا شعبه الّتي تشغله ويفكر فيها.

وقد جاء المعجم اللغوي الخاص بشعر سميح القاسم مستقى من الواقع المعيش لشعبه، حيث جاءت مفرداته كلها متعلقة بالشعب والوطن والثورة من خلال ألفاظ مختلفة منها: الوطن، الشهادة، الحرب، الحرب، السجن، الأرض، الثورة، العذاب، الانتصار، الطفل، الحجارة.. وتواجد مثل هذه المصطلحات في شعر سميح القاسم يعد طبيعيًا نسبةً إلى طبيعة تجربته وتوجهاته الفكرية.

ويتضح استخدامه لمثل هذه المصطلحات من خلال التالي:

“وانشّق عن صوت علاء الدين

ميلاد الحساسين الجوارح

أنا ألقيت على سيارة الجيش الحجارة

أنا وزّعت المناشير

وأعطيت الإشارة

أنا طرّزت الشعار

ناقلًا كرسيِّ”

التكرار: وهي ظاهرة من ظواهر الشعر الحديث الّتي بدأت في الانتشار في بداية القرن العشرين، وإن كانت جذورها تمتد إلى الشعر العربي القديم، فقد استخدمه العرب قديمًا. وهو من أهم الوسائل الّتي تلعب دورًا توضيحيًا في القصيدة، فتكرار لفظة ما أو عبارة ما يوحي بسيطرة هذا العنصر المكرّر وإلحاحه على فكر الشاعر.

ويمثل التكرار إحدى الظواهر الفنية الّتي برزت في شعر سميح القاسم، وقد تنوعت مظاهره في القصائد بحسب الحالة النفسية والشعورية الّتي ألمت بالشاعر لحظة الكتابة، إذ أن هناك بعض الموضوعات والصور الّتي تلحّ عليه في لحظة ما، فيكررها بغية التأثير في المتلقي أو الكشف عن الشعور الباطن الذي يسكنه، ومن الأمثلة على ذلك:

“قيل لي إنهم دُفنوا

وأُهيل لحاف التراب على الجثث النائمة

قيل لي إني واهم

وأنا أبصر الدم واللحم في الساحة الواهمة

ليتني واهمٌ أنني واهم

ليتني موقنٌ أنها يقظتي الحالمة”

حيث يعبر في هذه القصيدة عن رعبه عند رؤية الدم والجثث في قانا، وبتكراره اللفظي “ليتني” و “واهم” يحاول إقناع نفسه بأن هذا مجرد حلم لم يحدث.

استخدام الألفاظ العامية والأجنبية: اعتمد الشعراء في كثيرٍ من الأحيان استخدام اللغة العامية والمستخدمة اليومية من أجل إيصال المعنى والانفعالات، فاتجهوا إلى الاستفادة من المعجم العاميّ العربيّ وذلك انعكاسًا لطبيعة الموضوعات الّتي عالجوها. تقول سلمى الجيوسي: “إن اللهجة والمواقف في الشعر تغيرت بشكلٍ مباشر تحت تأثير الجو السياسي في الزطن العربي”.

وقد استخدم سميح القاسم العامية شعره بكثرة، وذلك بسبب الموضوعات الّتي عالجها من خلاله، على سبيل المثال قوله:

“وتعالوا

أحكموا فكّ الكلبشة”

فقد استخدم هنا اللفظ كلبشة في إشارة إلى القيد أو الأصفاد المستخدمة عند الاعتقال من الشرطة. وفي أبياتٍ أخرى يقول:

“أبي مات..

بيّي، أنا فاديه”

وقد جاء استخدام لفظة “بيي” بصورة محببة ومقربة إلى المتلقي، حيث تعني أبي في عامية بلاد الشام وفلسطين.

التناص كمحاولة للاختفاء خلفه

يبرز التناص كظاهرة لغوية واسعة الانتشار في الأدب العربي الحديث، ويعتمد في تمييزها على ثقافة المتلقي ومدى اطّلاعه وقدرته على الترجيح. والتناص هو أن نصّ أدبي ما نصوصًا أو أفكارًا أخرى سابقة عليه من خلال الاقتباس أو التضمين أو التلميح أو الإشارة، فهو مرتبط بثقافة الأديب. وتشترك جميع نظريات التناص في أنها تعير اهتمامًا بالغًا بالخلفية المعرفية للمبدع في عمليتي انتاج الخطاب أو تلقيه، غير أن الكاتب لا يستدعي “الأحداث والتجارب السابقة كلها وإنما يعيد بناءها وتنظيمها وإبراز بعض العناصر منها أو إخفائها بحسب الحاجة”.

ويعدّ سميح القاسم من أبرز الشعراء الّذين استخدموا التناص في شعرهم، حيث لجأ إلى استخدامه بمختلف أنواعه، وقد حضر بشكلٍ قوي من خلال التناص الديني والتناص الأسطوري. وقد جاء التناص الديني الأكثر تأثيرًا في شع القاسم، حيث ارتبط الدين بالوجدان الإنساني ارتباطًا عميقًا. وقد تعامل الشعراء العرب والفلسطينيين مع التراث الديني الإسلامي لما له من تأثير قوي وعميق في نفوس الناس، حيث اقتبس سميح القاسم من القرآن الكريم العديد من الآيات والشخصيات والقصص والأحداث. حيث يقول:

“دعهم، فإن ضلالهم سوف يرافقهم إلى اليوم الأخير

جالد إذا أفلحت، منتزعًا خطاك من الوحول الداميات

وعد إلى فردوسك المهجور، للجنات تجري تحتها

الأنهار، للقصر الكبير”

حيث اقتبس الشاعر “للجنات تجري من تحتها الأنهار من الآية: ﴿جزاؤهم عندَ ربّهم جنّات عدنٍ، تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا﴾

وفي موضعٍ آخر يقتبس من الآية ﴿إرمَ ذات العماد﴾ في قصيدة “أنادي الموت” حيث يقول:

“أبدًا تجذب وجهي بالنداءات الخفية

لمكانٍ خلف أسوار الشقاء

فيه شيّدت قصوري الذهبية

إرمي ذات العماد..

إرمي.. أمنحها من كل قلبي للعباد”

ومثل هذه الأمثلة العشرات في قصائد سميح القاسم المختلفة، وهي تدلل بشكلٍ خاص على أسلوبه المتفرد في الشعر في عصره. كما يعد القاسم من أكثر الشعراء الفلسطينيين شيوعًا، نظرًا لتجربته الفذة وحسه الإنساني وتجسيده لقضية شعبه بشكلٍ جلي في أشعاره.

كتاب “درجات القراءة” لخليل بيدس: رحلة استكشافيّة في القصص المختارة

خليل بيدس (1875-1949) هو كاتبٌ وأديبٌ ومترجمٌ عن الروسيّة، لكنّه كان كذلك ناشطًا سياسيًّا، فهل تقاطعت أعماله الأدبيّة مع عمله السياسيّ؟

خليل بيدس، ويكيبيديا

صورة رائجة لخليل بيدس، المصدر: ويكيبيديا

أثناء تصفّحنا لكتاب “درجات القراءة” الصادر عام 1934 والخاصّ بالصفّ الخامس الابتدائيّ لخليل بيدس، نفاجأ بكميّة القصص التي توحي برسائل سياسيّة تتعلّق بالعلاقة مع السلطة الحاكمة، لكنّ دهشتنا تقلّ حين نتذكّر أنّ خليل بيدس، وهو أحد أوائل الذين كتبوا الرواية والقصّة القصيرة في فلسطين، كان عضوًّا في “المجلس المختلط” الذي أنشأته الحكومة العثمانيّة، الموكّل بإدارة شؤون الطائفة العربيّة الأرثوذكسيّة، وأنّه شارك في الثورة العربيّة الكبرى عام 1916، وفي النشاطات السياسيّة ضد حكومة الانتداب البريطانيّ عام 1920.

كتب خليل بيدس مقالاتٍ سياسيّةً طالب فيها السلطات العثمانيّة باتّباع العدل والإنصاف في تعاملها مع العرب. كذلك، دعا العرب إلى الامتناع عن تنفيذ أوامر الحكومة البريطانيّة، وألقى خطبًا رنّانةً في المظاهرات المحتجّة على سياساتها، فحُكِم عليه بالإعدام في العهد العثمانيّ، ونجّاه من المشنقة هروبه إلى البطريركيّة الأرثوذكسيّة في القدس، وحكم عليه البريطانيّون بالسجن 15 عامًا، ليبصر سوء المعاملة والتمييز التي عاناها السجناء العرب، حتّى خرج حين عفا المندوب الساميّ، هربرت صمويل، عن السجناء السياسيّين من العرب واليهود.

أدرك خليل بيدس، إذن، أهمّيّة الكلمة جيّدًا في النضال، وخطرها على قائلها في الوقت ذاته، إذ قد تجعله يتدلّى من حبل المشنقة، ألم يقل في كتابه درجات القراءة “من استخفّ بالسلطان ذهبت دنياه”؟ كأنّ الناطق في وجه السلطة يُذكّر بما يرويه الكتابُ عن السلحفاة المحمولة هواءً بين بطّتين تُمسكان طرفَيٍ عودٍ تُغلِق عليه فمها، ما إن تفتحه لتتكلّم حتّى تقع على الأرض ميتةً.

من قصّة "البطّتان والسلحفاة"، كتاب درجات القراءة صفحة 116.
من قصّة “البطّتان والسلحفاة”، كتاب درجات القراءة صفحة 116.

فربّما، ولو بطريقةٍ لاواعيةٍ، أدرك خليل بيدس أنّ عليه أن يلجأ إلى الحيلة، كي يقول ما يريد، حيث يعجّ كتابه باستعمالها في قصصه، مثل القبّرة التي هربت بالخداع من يد الرجل الذي يرغب في أكلها، وأخذت تسخر منه حرّةً على الجبل، فدسّ بيدس رسائلَ سياسيّةً في حقائب طلاب الصف الخامس تنتظر من يفكّ شفرتها، إذ تتنكّر بزيّ الحكايات التراثيّة المختارة في الكتاب، كأنّ وصفه للغز، في صفحة 72، بأنّه ما يَشْتَبِهُ مَعْناهُ ويَلْتَبِسُ” ينطبق عليها.

من قصّة "رجل وقبّرة والسلحفاة"، كتاب درجات القراءة صفحة 31.
من قصّة “رجل وقبّرة والسلحفاة”، كتاب درجات القراءة صفحة 31.

وما يجعل القارئ يميل إلى هذا الاستنتاج كذلك، هو العديدُ من القصص المقتبسة من كتاب “كليلة ودمنة”. يقول عبد الله بن المقفّع عن ترجمته لكليلة ودمنة (أو كتابته؟): ” من قرأ هذا الكتاب ولم يفهم ما فيه ولم يعلم غرضه ظاهرًا أو باطنًا لم ينتفع بما بدا له من خطّه ونقشه” (كليلة ودمنة، صفحة 39). ألم يُرِد ابن المقفّع أن يبعث رسائلَ سياسيّةً عن العلاقة بين الحاكم والمحكوم، مختبئةً في حكايات أطفالٍ أبطالها حيواناتٌ ناطقة؟ ألم يكن غرضه أن يعظ -بالحيلة- الخليفة المنصور، من كان شديد البأس على من يعارضه ولو بالقول؟ يضطرّ الكاتب أن يدسّ لسانه في أفواه حيواناتٍ لتتحدّث عوضًا عنه، حين لا “يمتلك لسانه” كالسلحفاة السابقة الذكر، حين لا يمتلك حرّيّة استخدامه كما يشاء.

من قصّةٍ عن احتيال أزهر على الخليفة المنصور، كتاب درجات القراءة صفحة 28.
من قصّةٍ عن احتيال أزهر على الخليفة المنصور، كتاب درجات القراءة صفحة 28.

نقدّم لكم هنا رحلةً في كتاب درجات القراءة، لنحاول اكتشاف بعض الرسائل المخفيّة فيه، لأنّ أي كتابٍ، ولو كان مخصّصًا -كما يوضّح صاحبه- لتعليم القراءة العربيّة لطلّاب الصفّ الخامس، يحتمل دائمًا قراءاتٍ جديدةً تنقّب في نصوصه.

قد تنجي الحيلة من الموت، أحيانًا!

كثيرًا ما يكتفي الحاكم بالنظر إلى ظاهر الأمور فقط، ففي قصّة “الأعرابيّ والشاعر”، وقصّة “حسن البديهة” لا يصدّق الحاكم أنّ أعرابيًّا (في الأولى) وأن شاعرًا رثّ الهيئة (في الثانية) يكتب شعرًا حسنًا، تمامًا كما الأسد الناظر إلى صورته في المرآة ظانًّا أنّها أسدٌ آخر في قصّة “الأرنب والأسد”، بعد أن أوهمه الأرنب بذلك ليهرب من أنيابه. لذلك، قد تُنجي الحيلةُ من الموت، حين تُدرَكُ قواعد “اللعبة” التي لا يستطيع الحاكم ألّا يطبّقها خشيةً على صورته، كقصّة الخليفة عمر بن الخطّاب مع الهُرْمُزان، حين أدرك الأخير أنّ الحاكم لا ينبغي له التراجع عن كلامه، فاستغلّ ذلك متحايلًا لينجو. كذلك، يسلَمُ أحدُ الخوارج من قطع رأسه أمام المأمون، في قصّة “نصير بن منيع والمأمون”، حين ينشد أبياتًا عذبةً، مستغلًّا رغبة الخلفاء أن يظهروا أمام قومهم بصورة المتذوّق للشعر. وتنقذ الطرافةُ رجلًا في قصّة “عفو زيادٍ”، لأنّ الحكّام كثيرًا ما يصيبهم الملل، كالذي هاجم هارون الرشيد في قصّته مع جعفر البرمكي في الكتاب، فتنجح الطرفة في تسليته، عندما يفشل البستان والأنهار والأطيار.

 قصّة "عمر والهرمزان" ، كتاب درجات القراءة صفحة 109.
قصّة “عمر والهرمزان” ، كتاب درجات القراءة صفحة 109.

أيّها الحاكم، كنُ مثل حاتم!

يخصّص خليل بيدس عددًا كبيرًا من القصص كي يتحدّث عن عدل الحاكم، مثل عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، لكنّ النصيب الأكبر من هذه القصص خصّصها لحاتم الطائيّ، الذي كان أمير قومه واشتهر بكرمه الشديد، فذبح حصانه (رمز القوة العسكريّة وقتها) في قصّة “حاتم يجود بفرسه” ليطعم الناس، حين جاء قومٌ إليه يقصدون النعمان ملك الحيرة، ففي الطريق بين الناس والنعمان (رمز البذخ) يجب أن يكون الكرم (ممثّلًا بحاتم) موجودًا، لأنّ مُلْكَ الظلم زائل، كما في قصّة “بنت النعمان” التي كانت تنشر عليها ألف نسيجٍ من الحرير، فزال جمالها وجلالها حين قابلها سعد بن أبي وقّاص بعد الفتح، فأنشدتْ شعرًا عن غياب عدل أهلها، ملوك الحيرة، عن الناس، وذكرتْ كيف أذهَبَ الدهرُ نعيمهم.

من قصّة "بنت النعمان" ، كتاب درجات القراءة صفحة 135.
من قصّة “بنت النعمان” ، كتاب درجات القراءة صفحة 135.

طالبوا بحقوقكم بشجاعة الأطفال!

في قصّة “هشام والغلام” ينحبس المطر عن البادية، فيتوجّه زعماء القبائل ليقابلوا الخليفة، لكنّهم يخافون الحديث عن مطالبهم، فيطالب طفلٌ بحقوق الناس مستغلًّا مهاراته بالحديث، فينال ما يشاء. وفي قصّة “عبد الله بن الزبير في صغره” يرفض عبد الله أن يترك حقّه في التواجد بالطريق وتسليمه بالكامل لمرور الحاكم. لكن، ربّما علينا أن نحذر عند المطالبة، حين نتذكّر كيف أنّ الحجّاج قتل عبدَ الله عندما ثار على الدولة الأمويّة. (تصف قصّة “الحجّاج وشيخٌ من الأعراب” الحجّاجَ بالغشوم الظلوم، وبأنّ الخليفة عبد الملك الذي عيّنه أغشم وأظلم).

قصّة "عبد الله بن الزبير في صغره" ، كتاب درجات القراءة صفحة 59.
قصّة “عبد الله بن الزبير في صغره” ، كتاب درجات القراءة صفحة 59.

 

أرض الله واسعةٌ ولو امتلأت بالأفاعي!

تصف قصّة “الأسد وأصحابه والجمل” كيف غدر ملك الحيوانات بجملٍ بعد أن أعطاه الأمان والغنى. وفي قصّة “الحاج والعجوز” تعلّم امرأةٌ تعيش في خيمةٍ حاجًّا تائهًا اصطياد الأفاعي ليأكل، وكيفيّة حصوله على الماء المالح. وحين تسأله عن بلاده ويخبرها أنّ فيها النعم الكثيرة والأطعمة الطيّبة والمياه العذبة، تسأله إن كانت بلاده تحت يد سلطانٍ جائر، قد يخرجهم إذا شاء من بيوتهم، وحين يردّ أنّ الأمر قد يكون كذلك، تقول له ألا تصبح النعمة مع الظلم سمًّا، وتصبح الأفاعي إذا توفّر العدل ترياقًا؟ هنا نتذكّر كيف رفض خليل بيدس العمل في وظائف عرضتها عليه سلطات الانتداب.

من قصّة "الحاج والعجوز"،  كتاب درجات القراءة صفحة 35.
من قصّة “الحاج والعجوز”،  كتاب درجات القراءة صفحة 35.

في النهاية، ربّما لا يكون خليل بيدس قصد ذلك كلّه، لكنّ هدف أيّ قراءةٍ أن تجعل القارئ شريكًا للكاتب في كتابته، وأن تحرّر القارئ من سلطة الكاتب في احتكار التفسير الواحد، ومن البخل في التأويل، ألم يقل أبو نواس مسرورًا عندما سمع ناقدًا يفسّر شعره: “أعلمني عن شعري ما لم أعلمه”؟

أبو نواس يهجو بخيلًا، كتاب درجات القراءة صفحة 57.
أبو نواس يهجو بخيلًا، كتاب درجات القراءة صفحة 57.