ذاكِرة السّوق: رِحلة في عالم الإعلانات الفلسطينية القديمة

إنَّ تَصَفُّحَ الصُّحف والمُلصَقات الدّعائية من فترة الانتداب البريطاني أشبه بِخَطوِ خُطوةٍ في سوق يعجّ بالحياة من أيام مضت. الكَمّ الهائِل مِن الإعلاناتِ التّجارية يَرسُم صورةً حيةً لفترةٍ كانت فلسطين الانتدابية فيها تزدهر ككيان موحد، مدنها تنبض بالنشاط التجاري، متصلة بشكل وثيق مع المجتمعات العربية المجاورة. تَحكي هذهِ الإِعلانات قَصة ازدهارِ الأعمالِ التّجارية القادرة على

ملصق اعلان محل، 1931،أرشيف المكتبة الوطنية

إنَّ تَصَفُّحَ الصُّحف والمُلصَقات الدّعائية من فترة الانتداب البريطاني أشبه بِخَطوِ خُطوةٍ في سوق يعجّ بالحياة من أيام مضت. الكَمّ الهائِل مِن الإعلاناتِ التّجارية يَرسُم صورةً حيةً لفترةٍ كانت فلسطين الانتدابية فيها تزدهر ككيان موحد، مدنها تنبض بالنشاط التجاري، متصلة بشكل وثيق مع المجتمعات العربية المجاورة.

تَحكي هذهِ الإِعلانات قَصة ازدهارِ الأعمالِ التّجارية القادرة على الترويج لنفسها وتَحملها تكاليفَ الاعلانات في الجرائد. وتركزت الإعلانات في الغالب في ثلاث مدن رئيسية – القدس وحيفا ويافا -، وروجت لمجموعة واسعة من السلع والخدمات. كما أنها عكست الطبقات الاجتماعية للمصالح التجارية والعائلات التي تقف وراءها، مما يؤكد انفتاح فلسطين على المنطقة وازدهار الصناعات الثقافية والترفيهية والتجارية الجديدة.

وكانت القدس وحيفا ويافا هي المراكز التجارية. لكنَّ القدس احتفظت بمكانتها البارزة منذ العصر العثماني، واستمرت في الازدهار دينياً وسياسياً واقتصادياً أثناء وبعد الانتداب البريطاني. وقد انتعشت الأنشطة التجارية في حيفا ويافا بفضل التحديث فيها وموانئهما المزدحمة، مما سَهل العمليات التجارية وربطهما بالعالم الأوسع.

غالبًا ما عَرَضَت الإعلانات فروع الشركات في هذه المدن. على سبيل المثال، تعلن محلات بوتاجي للألبسة عن فروعها في القدس ويافا وحيفا وتل أبيب، مما يشير إلى وجود شبكة واسعة النطاق.

وفي بَعض الأحيان، ظهرت مدن أخرى مثل نابلس ورام الله في الإعلانات، مما يشير إلى وجود تجاري أقل بروزا ولكنه لا يزال نشطاً. ظهرت شوارع المدن المركزية أيضًا بشكل بارز في الإعلانات، مما يشير إلى بنية تحتية حضرية متطورة بشوارع مسماة ومرقمة، مما يسهل العمليات التجارية والخدمات البريدية. في القدس، شملت الشوارع البارزة طريق يافا، وطريق مأمن الله، وشارع جوليان، وشارع الأميرة ماري. وفي يافا، كانت الشوارع البارزة هي شارع الإسعاف، وشارع ظريفة، وشارع بسترز، في حين كان لشارع اللنبي أهمية كبيرة في حيفا. وكانت هذه الشوارع مراكز للأنشطة التجارية والثقافية والحياة اليومية.

وَسَلَّطت العَديد من الإِعلانات الضوّء على العلاقات الاقتصادية بين المُدن الفلسطينية والمدن العربية المجاورة في الأردن ولبنان وسوريا ومصر، مما عَكَسَ شراكات حيوية عبر الحدود. وكشفت هذه الإعلانات أن الشركات لم تكن مُدارة عائليًا فحسب، بل شكلت أيضًا تحالفات خارج حدود فلسطين، مما أدى إلى إنشاء شبكة قوية من التبادل التجاري والثقافي.

غالبًا ما تضمنت المصالح التجارية شراكات بين عائلات مختلفة، على الرغم من أن العديد منها كان يديرها اخوة من عائلة واحدة. وكثيراً ما ظهرت العائلات الفلسطينية الأرستقراطية في الإعلانات كعائلة شاهين، عائلة الديجاني والنشاشيبي. وعرضت الإعلانات مجموعة من الصناعات، من الخدمات التقليدية إلى القطاعات الجديدة مثل العمل البحري والبناء والصناعات الثقيلة. كما برزت الصناعات الفلسطينية الوطنية كصناعة السجائر.

كانت الشّركات المختلفة تُعلن عَن مَجموعة مُتنوعة منَ المُنتجات والخَدمات، بدءًا من المواد الكيميائية الزراعية وحتى الملابس والآلات الصناعية. وقد سلطت شركات مثل مصنع الحافلات الشرقية في يافا، وهو الأكبر من نوعه في فلسطين، الضوء على ظهور الصناعات الثقيلة والتوجه نحو التحديث والتصنيع.

تَكشِف هذه الإعلانات عن مشهد تجاري ديناميكي كان قائماً يوماُ في فلسطين، يتسم بالتركز الحضري والاتصال الإقليمي ومزيج من الصناعات التقليدية والحديثة. وهي تقدم لمحة عن النسيج الاجتماعي والاقتصادي في ذلك الوقت، وتعرض سوقًا محلياً مزدهرة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بحركة التجارة العالمية آنذاك.

زخرون يعقوب: كيفَ تُحيا الأراضي وهي رَميم

نقدم لكم في هذا المقال نبذة عن تاريخ واحدة من أول الكيبوتسات في اسرائيل، زيخرون يعكوب

زيخرون يعكوب، 1927،مجموعة روزا جوردون.

زيخرون يعكوب، 1927،مجموعة روزا جوردون.

في كانون الأول 1882، قَدِمَت مجموعة من اليهود الرومانيين، في رحلة نظمتها اللجنة المركزية للاستيطان في فلسطين وسوريا التابعة لأحباء صهيون الى مدينة حيفا وأخذوا أرضًا في التضاريس الصخرية والقاسية لقرية زَمارين، على أمل السكن والزراعة في المنطقة. لكن الرياح لم تأت بما تَشتهي سُفنهم، اذ أنَّ الأرضَ كانت صَعبة الزراعة، وأدى تفشي الملاريا إلى وفاة العديد من المستوطنين الأوائل، بما في ذلك الأطفال. وفي غضون عام، اضطر الكثيرون منهم للمغادرة، بسبب هذه الظروف القاسية.

وفي عام 1883، وصل الخلاص للمستوطنين على يَد البارون إدموند جيمس دي روتشيلد. قدّم البارون دعمه، وبدأ خططًا لتحويل الأرض للاستخدام الزراعي وإنشاء مجتمع سكني. وتحت رعايته تم تغيير اسم زمّارين إلى زخرون يعقوب، تكريما لوالده البارون جيمس (يعقوب) ماير دي روتشيلد.

وبتوجيه احترافي، شُقَّ شارعٌ رئيسي وأُحيطَ به منازل مستوحاة من الطراز الفرنسي ذات أسطح قرميدية حديثة. يتميز كل مسكن بفناء طويل ومساحة خلفية للزراعة. اليوم، يُعرف هذا الشارع باسم ميدراهوف، وهو طريق مشاة صاخب تصطف على جانبيه المقاهي والمتاجر المتخصصة، ويجذب السياح والسكان المحليين على حد سواء.

تولى إيليا شيد، كاتب البارون المخلص، إدارة المستعمرة الزراعية. تأكد من حصول المزارعين على أجور عادلة ووجّه ادارة الاقتصاد الزراعي وفق رؤية البارون. المبنى الذي يضم المكاتب الإدارية، حيث أقام البارون وزوجته أثناء زياراتهما، أصبح الآن بمثابة متحف “الهجرة الأولى”.

وامتدت مساهمات البارون إلى الحياة الروحية أيضًا. اذ بنى كنيس أوهيل يعقوب تكريما لوالده، وأصبح الكنيس بمثابة حجر الزاوية في المجتمع، حيث تتم الصلوات والفعاليات الدينية اليومية.

أدت بصيرة البارون أيضًا إلى إنشاء أول مصنع نبيذ في إسرائيل، مصنع نبيذ الكرمل-مزراحي. وعلى الرغم من النجاح الأولي، إلا أن تفشي نبات الفيلوكسيرا في عام 1892 دمر كروم العنب. ومع ذلك، فإن إدخال شتلات أمريكية مقاومة لنبات الفيلوكسيرا أدى إلى تجديد مصنع النبيذ الذي يستمر في الازدهار ويرحب بالزوار حتى اليوم.

كان نمو زخرون يعقوب ثابتًا، وعززه في عام 1912 وصول مهاجرين جدد من اليمن، ولا يزال العديد من أحفادهم يقيمون في المدينة. في فترة الانتداب البريطاني، تضاعف الانتاج الزراعي والتبغ والزيتون والزهور لصنع العطور. بعد قيام دولة إسرائيل في عام 1948، ارتفع عدد سكان البلدة، ليصل إلى 4200 بحلول عام 1951 واستمر في النمو إلى ما يقرب من 23000 اليوم.

تُعد بلدة زخرون يعقوب الحديثة مزيج نابض بالحياة من التاريخ والسحر المعاصر. اذ تضم حدائق روتشيلد التذكارية في “رماَتْ هَنَديف”، وهي محمية طبيعية جميلة، قبور البارون وزوجته. كما تمد زيارة مصنع النبيذ الكرمل، الزوار بتراث البلدة الغني.

أرشيف نَزيه خير: صدىً شعريٌ لحياةٍ غنية

في هذا المقال لَمحة عن الشاعر نزيه خير، مستوحى من أرشيفه الغني والمحفوظ في المكتبة الوطنية. من خلال أعماله الشعرية يقدم خير رؤى عميقة حولَ نَظرته الفَريدة للعالم وتجاربه الحياتية الغنية.

أرشيف نزيه خير

وُلد الشاعر نَزيه خير في قَرية داليةِ الكرمل الهادئة، الواقعة بالقرب من مدينة حيفا الصاخبة. نشأ نزيه في عائلة دُرزية مُتماسكة، مُحاطة بالأهل والثقافة والتقاليد الغنية لشعبه. منذ صغره، كان نزيه مفتونًا بقوة الكلمات، وهو الشغف الذي حمله معه طوال حياته.

كانت مَساعي نزيه الفكرية مجرد بداية لمساهماته في عالم الأدب. اذ قادَتهُ رحلته الأكاديمية إلى جامعة حيفا حيث انغمس في الأدب العربي والعلوم السياسية. وبحلول عام 1972، كان قد حصل على درجة البكالوريوس، وبعد أربع سنوات حصل على درجة الماجستير في العلوم السياسية.

بقلب مليء بالحماس وعقل مفعم بالأفكار، تولى نزيه منصب رئيس تحرير مجلتي “48” و”اتحاد الكتاب العرب الفلسطينيين”. كما شارك حبه للغة العربية وآدابها مع الطلاب المتحمسين في كلية المعلمين. وبدأت مجموعاته الشعرية تنمو، وكان كل بيت انعكاسًا لارتباطه العميق بوطنه وشعبه.

وقد اعتبرت الموسوعة الفلسطينية نزيه أحد الشعراء الخمسة الرواد من المجتمع العربي داخل إسرائيل، وتجسد أعماله روح وإبداع الشعر الفلسطيني المعاصر. وكان لكلماته صدى واسع النطاق، مجسدة جوهر تجاربه وتطلعاته.

لكن قصة نزيه لا تنتهي عند شعره. طوال حياته، جمع ثروة من المواد التي أرّخت رحلته كشاعر. إن هذا الأرشيف الثمين، الذي احتفظت به عائلته بمحبة بعد وفاته عام 2008، هو شهادة على العمل الذي قام به طوال حياته.

لسنوات، ظل هذا الأرشيف سرًا عائليًا، ولمحة خاصة عن عالم شاعر مميز. ومع ذلك، في عام 2023، تولت المَكتبة الوطنية في القدس المهمة الضخمة المتمثلة في فهرسة وأرشفة مواد نزيه. وتم اتاحة الأرشيف رقمياً، لضمان استمرار ارثه للأجيال القادمة.

يحتوي الأرشيف قصائد مكتوبة بخط اليد، بعضها لم ير النور أبدًا، ومسودات، وقصاصات صحف، ومجلات. وصور تلتقط نزيه في مناسبات ثقافية مختلفة، في الداخل والخارج، وهو يختلط مع شخصيات بارزة مثل فدوى طوقان، وميشيل حداد، ونجيب محفوظ، وسميح القاسم، وروني سوميك، والشاعر الأمريكي ألين جينسبيرج. ترسم هذه الصور، إلى جانب الصور الشخصية والعائلية، صورة حية لحياة مخصصة للفن والتعبير.

أرشيف نزيه خير
أرشيف نزيه خير

واليوم، يمكن لزوار المكتبة الوطنية في القدس استكشاف مخزون تفصيلي من أعمال نزيه خير الشعرية، مع عرض بعض القطع بفخر في معرض دائم. ومن خلال هذا الحفظ الدقيق، يستمر صوت نزيه في الإلهام، مرددًا صدى الجمال الخالد لشعره والروح الدائمة لوطنه.

شِعر خير

بعد الاطلاع على أعماله، يتَعذَّرُ حصر شعر نزيه في تخصص واحد، وربما هذا ما يميزه. اذ يتوضح لنا سَكبَهُ كل جانب من جوانب حياته على الورق، من تجاربه الشخصية إلى آرائه السياسية.

يتميز شعر  خير بمزجه بين الوطنية الفلسطينية والقومية العربية والموضوعات العالمية والانسانية. وقد خلق هذا المزيج الفريد، الذي أَثَرته معتقداته الدرزية التقدمية، تناغمًا نادرًا ما نجده بين الشعراء الآخرين. تعكس أعماله الفخر الوطني والعمق الثقافي، المتجذّرة بعمق في التراث العربي.

أرشيف نزيه خير

في فترات كتابته الأولى كتب عن صراعاته الشخصية، معبّرًا عن مشاعر الفقدان العميقة والإحساس العميق بالاغتراب بسبب هويته العربية الدرزية التي احتلت مساحة كبيرة من أعماله كما يظهر في قصيدته بين لحظتين، لكنه في الآن ذاته يرى أن كل ظلم أو حزن أو ألم ينتهي بالأمل، وهذا التفاؤل ينعكس كثيرًا في قصائده كما في قصيدته ما وراء الغيب.

يُقدم عمل نزيه رؤية فريدة لحياته المتعددة الأوجه، مما يوضح أنه لكي نفهمه حقًا، يجب على المرء أن يتعمق في أرشيفه الواسع. من خلال كلماته، يمكن للقراء استكشاف عمق عواطفه ومعتقداته والتراث الثقافي الغني الذي حدد رحلته الشعرية غير العادية.

أرشيف نزيه خير
أرشيف نزيه خير

“إذا المحبّة أومت إليكم فاتبعوها”: وصايا الحبّ في كتاب “النبيّ” لجبران

نقدّم لكم في هذا المقال سبرًا لعمق الحبّ في كتاب "النبيّ" لجبران خليل جبران (1883-1931)، الذي يُعتبر أشهر كتبه، ورائعته الأدبيّة العالميّة التي تُرجمت إلى عشرات اللغات.

جبران خليل جبران

جبران خليل جبران

نشر جبران خليل جبران كتابه “النبيّ” باللغة الإنكليزيّة عام 1923، وقد حقّق له شهرةً عالميّة، وتُرجِم إلى أكثر من 50 لغة، من بينها العربيّة التي ترُجِم إليها عدّة ترجمات. وضع في هذا الكتاب خلاصة حياته وتجربته، وقد اعتبر أنّ روحه كتبته منذ الأزل، وقال عنه أيضًا: “شغل هذا الكتاب الصغير كلّ حياتي. كنتُ أريد أن أتأكّد بشكلٍ مطلق من أن كلّ كلمة كانت حقًا أفضل ما أستطيع تقديمه“.

كتب جبران كتابه بلغةٍ شعريّةٍ عذبة، وبأسلوبٍ أدبيّ قابلٍ للتأويلات العميقة يذكّر بالكتب الدينيّة كالإنجيل والأسفار المقدّسة. ونشعر أثناء القراءة بانفتاح أفق الكتاب على مناطق ثقافيّة وإنسانيّة واسعة، كالصوفيّة ووحدة الوجود ومعاني الحبّ العابرة للحضارات، وكالرومانسيّة ممثّلةً بتقديسها للطبيعة، وبمفهومها عن الشاعر النبيّ الخلّاق.

الإعلان 25.10.1926

جريدة الإعلان، 25 تشرين الأوّل 1926*


يبدأ الكتاب من نقطة النهاية، من اللحظة التي تصل فيها سفينةٌ إلى المدينة الخياليّة أورفاليس، لتعيد النبيّ -المسمّى في الكتاب “المصطفى”، والموصوف بأنّه “المختار الحبيب”- إلى وطنه، بعد أن قضى في هذه المدينة 12 عامًا. وعندما يعلم السكّان بالأمر، يهرعون إليه، طالبين منه ألّا يغادرهم، لأنّ “المحبّة لا تعرف عمقها إلّا ساعة الفراق“. لكنّه لا يستطيع البقاء أكثر، لأنّ البقاء يعني لديه الجمود، وعليه أن يمضي إلى الآفاق الواسعة كالموج الذي لا يهدأ. حينها، يطلب منه السكّان أن يحدّثهم حديثًا أخيرًا نابعًا من حبّه لهم عن الحقيقة التي يعرفها، المحفور حبّها وشوقها في نفوسهم.

 قد تكون مدينة أورفاليس رمزًا للدنيا، وأهلها رمزًا للبشر، والسفينة رمزًا للموت، الذي يحمل الميّت إلى وطنه، إلى الأمّ الأزليّة كما يصفها، وإلى البحر اللامتناهي الذي يرمز بالأدب الصوفيّ إلى الله. وقد يكون النبيّ هنا رمزًا للصوفيّ، أو الشاعر كما وصفته المدرسة الرومانسيّة، وربّما أيضًا حين نتأمّل حبّه لأهل المدينة وتأجيله للرحيل كثيرًا وأمنيته أن يصحبهم معه، يُذكّرنا ذلك بالبوديساتفا في البوذيّة، وهو شخصٌ يؤجّل استنارته الكاملة كي يساعد الآخرين، نتيجة عطفه وحبّه لهم، في أن يصلوا الحقيقة وينالوا الاستنارة.

وكما يلخّص كتاب النبيّ حياة جبران وتجربته، فإنّ الحبّ يلخّص هذا الكتاب. فهو أوّل ما يتحدّث النبيّ عنه في حديثه الأخير لأهل مدينته، بعد أن تسأله عنه “ألمِطرا”، أبرز شخصيّةٍ بعده في الكتاب، وقد كانت هذه المرأة الكاهنة أوّل من عطف عليه وآمن به يوم وصوله إلى المدينة. والحبّ أيضًا موجودٌ إمّا بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرةٍ في كلّ أجوبة النبيّ على أسئلة سكّان المدينة عبر فصول الكتاب.

الاتحاد 21.11.1994

الاتحاد، 21 تشرين الثاني 1994*

يأمرنا نبيّ جبران منذ البداية أن نتبع الحبّ دائمًا، حتّى لو كان نداؤه إلينا، لا بصوتٍ جهورٍ مباشر، بل بمجرّد الإشارة. لكنّه يحذّرنا في الوقت ذاته بأنّ الحبّ ليس سهلًا، لأنّ طرقه صعبةٌ ووعرة وكثيرة المزالق. فالحبّ لدى نبيّ جبران هو الشيء ونقيضه معًا، هو نعومة ريش الأجنحة، وهو أيضًا السيف الجارح المختبئ بين هذا الريش. وكأنّ جبران حين يقول على لسان نبيّه بأنّ الحبّ يكلّل الإنسان بالمجد، لكنّه أيضًا يصلبه، أراد أن يُشير إلى هذه الآية من إنجيل يوحنا عن صلب المسيح: “لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ“، لكنّ الفرق لدى جبران أنّ هذا الحبّ الذي يؤمّن الحياة الأبديّة رغم جراحه القريبة من آلام الموت على الصليب، هو حبٌّ ليس مقتصرًا على الآلهة، بل يستطيعه جميع الناس، نظرًا لإيمان جبران، كما يظهر في كتابه، بقوّة قلب الإنسان، وبوحدة الوجود، وبوجود نفسٍ عليا داخل كلٍّ منّا، وقطرةٍ لامتناهية من البحر الإلهيّ الأبديّ.

وحين يكمل النبيّ وصفه للحبّ، يشبّهه بعمليّة الخَبز، فهو يضمّنا إليه كحزمة قمح، ويدرسنا على البيادر ليعرّينا من غرورنا، وهو يغربلنا ليخلّصنا من القشور التي نحبس أنفسنا داخلها، ثمّ يطحننا ليجعلنا أنقياء كالثلج، ثمّ يعجننا بالدموع كي نلين، ثمّ أخيرًا يسلّمنا إلى ناره المقدّسة فنصير خبزًا من حبٍّ يليق بأن يقدّم على مائدة الربّ. وفي هذه الأوصاف جميعها ندرك أنّ الحبّ لا يصنع منّا نسخًا أفضل من أنفسنا، إلّا بالألم (الطحن) أو بالحزن (الدموع)، وبأنّ على نار شوقه أن تحرقنا كي نكون جزءًا من مائدة الله اللانهائيّة. ونلمح مرّةً أخرى إشاراتٍ إنجيليّة تذكّرنا بالعلاقة بين الخبز وجسد المسيح، وبقول المسيح بأنّ من يأكل خبزه يحيا إلى الأبد.

ثمّ يحذّرنا نبيّ جبران بأنّنا إن كنّا لا نمتلك الشجاعة على تحمّل مشاقّ الحبّ، ولا نبحث فيه إلّا على الطمأنينة واللذة، فالأولى أن نغادر بيدر الحبّ إلى “عالمٍ لا تتعاقب فيه الفصول، حيث تضحكون، لكن ليس كلّ ضحكم، وتبكون، لكن ليس كلّ دموعكم“. وربّما قصد جبران بذلك أنّ الحياة بلا حبٍّ، وبلا ألم الحبّ ولذّته، ستشبه في رتابتها عالمًا بفصلٍ واحد لا يتجدّد، وسيعيشها الإنسان على السطح فقط، بفرحٍ لا يغوص إلى الأعماق، وبحزنٍ لا يأخذه إلى نبع الدموع داخله، فبالحبّ وحده يعيش أقصى طاقاتها وعواطفها.

وقبل أن ينهي النبيّ عظته عن الحبّ، وقبل أن ينهي جبران كتابة فصله الأوّل عن الحبّ الذي يلخّص الكتاب كأنّ باقي الفصول تذوب فيه، يؤكّد لنا أنّ الحبّ ليس تملّكًا، وليس سلبًا لحريّة الآخر، فالحبّ لا يملك إلّا ذاته، ولا يعطي إلّا ذاته، وهو مكتفٍ بها، وهو يقودك إن وجدك خليقًا له، ولا تقوده، فكأنّه يقصد أنّ علينا تسليم أنفسنا إليه، كما يسلّم الصوفيّ أمره لله يفعل به ما يشاء، لأنّ الحبّ، كما يقول نبيّ جبران، هو الذي يُذيبُ الإنسان في قلب الله الذي يسع كلّ شيء.

تستطيعون أن تستمعوا إلى مقتطفاتٍ عن الحبّ من كتاب النبيّ بغناء فيروز هنا:
https://www.youtube.com/watch?v=0WKMnEflR50


* للمزيد حول “جبران خليل جبران” في موقع “جرايد” أرشيف الصحف الفلسطينية التاريخية