أرشيف نَزيه خير: صدىً شعريٌ لحياةٍ غنية

في هذا المقال لَمحة عن الشاعر نزيه خير، مستوحى من أرشيفه الغني والمحفوظ في المكتبة الوطنية. من خلال أعماله الشعرية يقدم خير رؤى عميقة حولَ نَظرته الفَريدة للعالم وتجاربه الحياتية الغنية.

أرشيف نزيه خير

وُلد الشاعر نَزيه خير في قَرية داليةِ الكرمل الهادئة، الواقعة بالقرب من مدينة حيفا الصاخبة. نشأ نزيه في عائلة دُرزية مُتماسكة، مُحاطة بالأهل والثقافة والتقاليد الغنية لشعبه. منذ صغره، كان نزيه مفتونًا بقوة الكلمات، وهو الشغف الذي حمله معه طوال حياته.

كانت مَساعي نزيه الفكرية مجرد بداية لمساهماته في عالم الأدب. اذ قادَتهُ رحلته الأكاديمية إلى جامعة حيفا حيث انغمس في الأدب العربي والعلوم السياسية. وبحلول عام 1972، كان قد حصل على درجة البكالوريوس، وبعد أربع سنوات حصل على درجة الماجستير في العلوم السياسية.

بقلب مليء بالحماس وعقل مفعم بالأفكار، تولى نزيه منصب رئيس تحرير مجلتي “48” و”اتحاد الكتاب العرب الفلسطينيين”. كما شارك حبه للغة العربية وآدابها مع الطلاب المتحمسين في كلية المعلمين. وبدأت مجموعاته الشعرية تنمو، وكان كل بيت انعكاسًا لارتباطه العميق بوطنه وشعبه.

وقد اعتبرت الموسوعة الفلسطينية نزيه أحد الشعراء الخمسة الرواد من المجتمع العربي داخل إسرائيل، وتجسد أعماله روح وإبداع الشعر الفلسطيني المعاصر. وكان لكلماته صدى واسع النطاق، مجسدة جوهر تجاربه وتطلعاته.

لكن قصة نزيه لا تنتهي عند شعره. طوال حياته، جمع ثروة من المواد التي أرّخت رحلته كشاعر. إن هذا الأرشيف الثمين، الذي احتفظت به عائلته بمحبة بعد وفاته عام 2008، هو شهادة على العمل الذي قام به طوال حياته.

لسنوات، ظل هذا الأرشيف سرًا عائليًا، ولمحة خاصة عن عالم شاعر مميز. ومع ذلك، في عام 2023، تولت المَكتبة الوطنية في القدس المهمة الضخمة المتمثلة في فهرسة وأرشفة مواد نزيه. وتم اتاحة الأرشيف رقمياً، لضمان استمرار ارثه للأجيال القادمة.

يحتوي الأرشيف قصائد مكتوبة بخط اليد، بعضها لم ير النور أبدًا، ومسودات، وقصاصات صحف، ومجلات. وصور تلتقط نزيه في مناسبات ثقافية مختلفة، في الداخل والخارج، وهو يختلط مع شخصيات بارزة مثل فدوى طوقان، وميشيل حداد، ونجيب محفوظ، وسميح القاسم، وروني سوميك، والشاعر الأمريكي ألين جينسبيرج. ترسم هذه الصور، إلى جانب الصور الشخصية والعائلية، صورة حية لحياة مخصصة للفن والتعبير.

أرشيف نزيه خير
أرشيف نزيه خير

واليوم، يمكن لزوار المكتبة الوطنية في القدس استكشاف مخزون تفصيلي من أعمال نزيه خير الشعرية، مع عرض بعض القطع بفخر في معرض دائم. ومن خلال هذا الحفظ الدقيق، يستمر صوت نزيه في الإلهام، مرددًا صدى الجمال الخالد لشعره والروح الدائمة لوطنه.

شِعر خير

بعد الاطلاع على أعماله، يتَعذَّرُ حصر شعر نزيه في تخصص واحد، وربما هذا ما يميزه. اذ يتوضح لنا سَكبَهُ كل جانب من جوانب حياته على الورق، من تجاربه الشخصية إلى آرائه السياسية.

يتميز شعر  خير بمزجه بين الوطنية الفلسطينية والقومية العربية والموضوعات العالمية والانسانية. وقد خلق هذا المزيج الفريد، الذي أَثَرته معتقداته الدرزية التقدمية، تناغمًا نادرًا ما نجده بين الشعراء الآخرين. تعكس أعماله الفخر الوطني والعمق الثقافي، المتجذّرة بعمق في التراث العربي.

أرشيف نزيه خير

في فترات كتابته الأولى كتب عن صراعاته الشخصية، معبّرًا عن مشاعر الفقدان العميقة والإحساس العميق بالاغتراب بسبب هويته العربية الدرزية التي احتلت مساحة كبيرة من أعماله كما يظهر في قصيدته بين لحظتين، لكنه في الآن ذاته يرى أن كل ظلم أو حزن أو ألم ينتهي بالأمل، وهذا التفاؤل ينعكس كثيرًا في قصائده كما في قصيدته ما وراء الغيب.

يُقدم عمل نزيه رؤية فريدة لحياته المتعددة الأوجه، مما يوضح أنه لكي نفهمه حقًا، يجب على المرء أن يتعمق في أرشيفه الواسع. من خلال كلماته، يمكن للقراء استكشاف عمق عواطفه ومعتقداته والتراث الثقافي الغني الذي حدد رحلته الشعرية غير العادية.

أرشيف نزيه خير
أرشيف نزيه خير

مستخدمًا التناص للوصول إلى الأدب؛ مسيرة سميح القاسم الأدبية

العشرات في قصائد سميح القاسم المختلفة، وهي تدلل بشكلٍ خاص على أسلوبه المتفرد في الشعر في عصره وبالذات التناص الأدبي.

سميح القاسم

الشاعر سميح القاسم

أبصر سميح القاسم النور عام 1939 في مدينة الزرقاء بالأردن، لوالدٍ برتبة كابتن بالجيش الأردني. وقد كانت أسرته مؤلفة من الأب والأم وستة أخوة وست أخوات، يقول سميح عن طفولته الأولى، أنه عند انتهاء الحرب العالمية الثانية عادت الأسرة إلى بلدتهم الأصلية الرامة في الجليل الأعلى، حيث درس الابتدائية في دير اللاتين، المدرسة الروسية القديمة، ثم المرحلة الإعدادية في المدرسة الحكومية، وأكمل المرحلة الثانوية في الناصرة، ولاحقًا درس في أكاديمية موسكو الفلسفة والاقتصاد السياسي.

يحكي سميح القاسم عن أصول أسرته بأنهم يعودون في الأصل إلى الفاطميين الموحدين، وأن عائلته كبيرة وموزعة بين فلسطين وسوريا ولبنان. تزوج سميح وأنجب أربعة أولاد أسماهم: وطن محمد، وضاح، ياسر، عمر. علَّم في بداية حياته، ثم انصرف إلى نشاطه السياسي في الحزب الشيوعي، وتابع على التوازي نشاطه الأدبي، واعتقل عدة مرات ووضع تحت الإقامة الجبرية بسبب مواقفه ومقاومته ورفضه التجنيد الإجباري للدروز.

اقرأوا أيضًا: دالية الكرمل – من تمرّد جبل لبنان حتّى حلف الدّم مع إسرائيل

عمل عاملًا ومعلّمًا في مدينة حيفا، لكنه سرّح لاحقًا بسبب شعره، وانتقل بعد ذلك للعمل في مجال الصحافة، حيث أسهم في تحرير مجلتي الغد والاتحاد، ثم تولى رئاسة مجلة “هذا العالم” عام 1966، ثم عاد للعمل محررًا في صحيفة الاتحاد، وسكرتيرًا لصحيفة “الجديد” ثم رئيسًا لها، كما أسس منشورات “عربسك” 1973 وتولى رئاسة المؤسسة الشعبية للفنون في حيفا.

وقد تأثر شعر القاسم من خلال انتماءاته المختلفة الّتي تقلّبت واختلفت خلال حياته مثله كمثل بقية الشعراء والأدباء من جيله، حيث بدأ حياته بميول قومية واضحة لكنه سرعان ما انضم للحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح) ليظل عضوًا فيه حتى نهاية الثمانينيّات، حيث قدم استقالته من الحزب وتفرغ للعمل الصحفي والأدبي كليًا.

وقد كتب القاسم عشرات الكتب الشعرية في سنوات حياته، حيث اختصت بقضايا الشعب الفلسطيني بشكل عام، وبأحوال الفلسطينيين في إسرائيل أيضًا، من هذه الكتب: مواكب الشمس 1958، أغاني الدروب 1964، إرَم 1965، دمي على كفي 1967، دخان البراكين 1968، إسكندرون في رحلة الخارج ورحلة الداخل 1970، قرآن الموت والياسمين 1971، الموت الكبير 1972، وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم 1976، كولاج 1983، عجائب قانا الجديدة 2006، وغيرها عشرات من الكتب ومئات من القصائد.

وقد توفي سميح القاسم بعد صراع مع مرض سرطان الكبد لمدة ثلاث سنوات وذلك في 19 أغسطس 2014.

اللّغة في شعر سميح القاسم

يستطيع الشاعر من خلال اللعب بأوتار اللغة التعبير عن نفسه ومواقفه، أفكاره وعواطفه وأحاسيسه وتوجهاته، فهي غطاء مرن للاختباء تحتها ونقل رسالة بصورة غير مباشرة، فالاستخدام الجيد للغة يحيل بالكاتب إلى التفرد، حتى يخيل للقارئ بأن هذا اللفظ أو الاستعارة اللغوية هي من اختراع الشاعر، على الرغم من أنه كان يعرفها مسبقًا.

وقد التزم سميح القاسم كمعظم شعراء عصره بلغة مباشرة دون مواربة، خاصةً في السنوات الأولى لكتابة الشعر، فقد كانت نوعية الكتابة لدى الشعراء في ذلك الجيل صيغة المباشرة دون الاختفاء خلف العبارات المنمقة والاختصارات الشعرية المختلفة. وقد اعتمد سميح القاسم هذا الأسلوب في التعبير عن أفكاره وتوجهاته وقضايا شعبه الّتي تشغله ويفكر فيها.

وقد جاء المعجم اللغوي الخاص بشعر سميح القاسم مستقى من الواقع المعيش لشعبه، حيث جاءت مفرداته كلها متعلقة بالشعب والوطن والثورة من خلال ألفاظ مختلفة منها: الوطن، الشهادة، الحرب، الحرب، السجن، الأرض، الثورة، العذاب، الانتصار، الطفل، الحجارة.. وتواجد مثل هذه المصطلحات في شعر سميح القاسم يعد طبيعيًا نسبةً إلى طبيعة تجربته وتوجهاته الفكرية.

ويتضح استخدامه لمثل هذه المصطلحات من خلال التالي:

“وانشّق عن صوت علاء الدين

ميلاد الحساسين الجوارح

أنا ألقيت على سيارة الجيش الحجارة

أنا وزّعت المناشير

وأعطيت الإشارة

أنا طرّزت الشعار

ناقلًا كرسيِّ”

التكرار: وهي ظاهرة من ظواهر الشعر الحديث الّتي بدأت في الانتشار في بداية القرن العشرين، وإن كانت جذورها تمتد إلى الشعر العربي القديم، فقد استخدمه العرب قديمًا. وهو من أهم الوسائل الّتي تلعب دورًا توضيحيًا في القصيدة، فتكرار لفظة ما أو عبارة ما يوحي بسيطرة هذا العنصر المكرّر وإلحاحه على فكر الشاعر.

ويمثل التكرار إحدى الظواهر الفنية الّتي برزت في شعر سميح القاسم، وقد تنوعت مظاهره في القصائد بحسب الحالة النفسية والشعورية الّتي ألمت بالشاعر لحظة الكتابة، إذ أن هناك بعض الموضوعات والصور الّتي تلحّ عليه في لحظة ما، فيكررها بغية التأثير في المتلقي أو الكشف عن الشعور الباطن الذي يسكنه، ومن الأمثلة على ذلك:

“قيل لي إنهم دُفنوا

وأُهيل لحاف التراب على الجثث النائمة

قيل لي إني واهم

وأنا أبصر الدم واللحم في الساحة الواهمة

ليتني واهمٌ أنني واهم

ليتني موقنٌ أنها يقظتي الحالمة”

حيث يعبر في هذه القصيدة عن رعبه عند رؤية الدم والجثث في قانا، وبتكراره اللفظي “ليتني” و “واهم” يحاول إقناع نفسه بأن هذا مجرد حلم لم يحدث.

استخدام الألفاظ العامية والأجنبية: اعتمد الشعراء في كثيرٍ من الأحيان استخدام اللغة العامية والمستخدمة اليومية من أجل إيصال المعنى والانفعالات، فاتجهوا إلى الاستفادة من المعجم العاميّ العربيّ وذلك انعكاسًا لطبيعة الموضوعات الّتي عالجوها. تقول سلمى الجيوسي: “إن اللهجة والمواقف في الشعر تغيرت بشكلٍ مباشر تحت تأثير الجو السياسي في الزطن العربي”.

وقد استخدم سميح القاسم العامية شعره بكثرة، وذلك بسبب الموضوعات الّتي عالجها من خلاله، على سبيل المثال قوله:

“وتعالوا

أحكموا فكّ الكلبشة”

فقد استخدم هنا اللفظ كلبشة في إشارة إلى القيد أو الأصفاد المستخدمة عند الاعتقال من الشرطة. وفي أبياتٍ أخرى يقول:

“أبي مات..

بيّي، أنا فاديه”

وقد جاء استخدام لفظة “بيي” بصورة محببة ومقربة إلى المتلقي، حيث تعني أبي في عامية بلاد الشام وفلسطين.

التناص كمحاولة للاختفاء خلفه

يبرز التناص كظاهرة لغوية واسعة الانتشار في الأدب العربي الحديث، ويعتمد في تمييزها على ثقافة المتلقي ومدى اطّلاعه وقدرته على الترجيح. والتناص هو أن نصّ أدبي ما نصوصًا أو أفكارًا أخرى سابقة عليه من خلال الاقتباس أو التضمين أو التلميح أو الإشارة، فهو مرتبط بثقافة الأديب. وتشترك جميع نظريات التناص في أنها تعير اهتمامًا بالغًا بالخلفية المعرفية للمبدع في عمليتي انتاج الخطاب أو تلقيه، غير أن الكاتب لا يستدعي “الأحداث والتجارب السابقة كلها وإنما يعيد بناءها وتنظيمها وإبراز بعض العناصر منها أو إخفائها بحسب الحاجة”.

ويعدّ سميح القاسم من أبرز الشعراء الّذين استخدموا التناص في شعرهم، حيث لجأ إلى استخدامه بمختلف أنواعه، وقد حضر بشكلٍ قوي من خلال التناص الديني والتناص الأسطوري. وقد جاء التناص الديني الأكثر تأثيرًا في شع القاسم، حيث ارتبط الدين بالوجدان الإنساني ارتباطًا عميقًا. وقد تعامل الشعراء العرب والفلسطينيين مع التراث الديني الإسلامي لما له من تأثير قوي وعميق في نفوس الناس، حيث اقتبس سميح القاسم من القرآن الكريم العديد من الآيات والشخصيات والقصص والأحداث. حيث يقول:

“دعهم، فإن ضلالهم سوف يرافقهم إلى اليوم الأخير

جالد إذا أفلحت، منتزعًا خطاك من الوحول الداميات

وعد إلى فردوسك المهجور، للجنات تجري تحتها

الأنهار، للقصر الكبير”

حيث اقتبس الشاعر “للجنات تجري من تحتها الأنهار من الآية: ﴿جزاؤهم عندَ ربّهم جنّات عدنٍ، تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا﴾

وفي موضعٍ آخر يقتبس من الآية ﴿إرمَ ذات العماد﴾ في قصيدة “أنادي الموت” حيث يقول:

“أبدًا تجذب وجهي بالنداءات الخفية

لمكانٍ خلف أسوار الشقاء

فيه شيّدت قصوري الذهبية

إرمي ذات العماد..

إرمي.. أمنحها من كل قلبي للعباد”

ومثل هذه الأمثلة العشرات في قصائد سميح القاسم المختلفة، وهي تدلل بشكلٍ خاص على أسلوبه المتفرد في الشعر في عصره. كما يعد القاسم من أكثر الشعراء الفلسطينيين شيوعًا، نظرًا لتجربته الفذة وحسه الإنساني وتجسيده لقضية شعبه بشكلٍ جلي في أشعاره.

كتاب “درجات القراءة” لخليل بيدس: رحلة استكشافيّة في القصص المختارة

خليل بيدس (1875-1949) هو كاتبٌ وأديبٌ ومترجمٌ عن الروسيّة، لكنّه كان كذلك ناشطًا سياسيًّا، فهل تقاطعت أعماله الأدبيّة مع عمله السياسيّ؟

خليل بيدس، ويكيبيديا

صورة رائجة لخليل بيدس، المصدر: ويكيبيديا

أثناء تصفّحنا لكتاب “درجات القراءة” الصادر عام 1934 والخاصّ بالصفّ الخامس الابتدائيّ لخليل بيدس، نفاجأ بكميّة القصص التي توحي برسائل سياسيّة تتعلّق بالعلاقة مع السلطة الحاكمة، لكنّ دهشتنا تقلّ حين نتذكّر أنّ خليل بيدس، وهو أحد أوائل الذين كتبوا الرواية والقصّة القصيرة في فلسطين، كان عضوًّا في “المجلس المختلط” الذي أنشأته الحكومة العثمانيّة، الموكّل بإدارة شؤون الطائفة العربيّة الأرثوذكسيّة، وأنّه شارك في الثورة العربيّة الكبرى عام 1916، وفي النشاطات السياسيّة ضد حكومة الانتداب البريطانيّ عام 1920.

كتب خليل بيدس مقالاتٍ سياسيّةً طالب فيها السلطات العثمانيّة باتّباع العدل والإنصاف في تعاملها مع العرب. كذلك، دعا العرب إلى الامتناع عن تنفيذ أوامر الحكومة البريطانيّة، وألقى خطبًا رنّانةً في المظاهرات المحتجّة على سياساتها، فحُكِم عليه بالإعدام في العهد العثمانيّ، ونجّاه من المشنقة هروبه إلى البطريركيّة الأرثوذكسيّة في القدس، وحكم عليه البريطانيّون بالسجن 15 عامًا، ليبصر سوء المعاملة والتمييز التي عاناها السجناء العرب، حتّى خرج حين عفا المندوب الساميّ، هربرت صمويل، عن السجناء السياسيّين من العرب واليهود.

أدرك خليل بيدس، إذن، أهمّيّة الكلمة جيّدًا في النضال، وخطرها على قائلها في الوقت ذاته، إذ قد تجعله يتدلّى من حبل المشنقة، ألم يقل في كتابه درجات القراءة “من استخفّ بالسلطان ذهبت دنياه”؟ كأنّ الناطق في وجه السلطة يُذكّر بما يرويه الكتابُ عن السلحفاة المحمولة هواءً بين بطّتين تُمسكان طرفَيٍ عودٍ تُغلِق عليه فمها، ما إن تفتحه لتتكلّم حتّى تقع على الأرض ميتةً.

من قصّة "البطّتان والسلحفاة"، كتاب درجات القراءة صفحة 116.
من قصّة “البطّتان والسلحفاة”، كتاب درجات القراءة صفحة 116.

فربّما، ولو بطريقةٍ لاواعيةٍ، أدرك خليل بيدس أنّ عليه أن يلجأ إلى الحيلة، كي يقول ما يريد، حيث يعجّ كتابه باستعمالها في قصصه، مثل القبّرة التي هربت بالخداع من يد الرجل الذي يرغب في أكلها، وأخذت تسخر منه حرّةً على الجبل، فدسّ بيدس رسائلَ سياسيّةً في حقائب طلاب الصف الخامس تنتظر من يفكّ شفرتها، إذ تتنكّر بزيّ الحكايات التراثيّة المختارة في الكتاب، كأنّ وصفه للغز، في صفحة 72، بأنّه ما يَشْتَبِهُ مَعْناهُ ويَلْتَبِسُ” ينطبق عليها.

من قصّة "رجل وقبّرة والسلحفاة"، كتاب درجات القراءة صفحة 31.
من قصّة “رجل وقبّرة والسلحفاة”، كتاب درجات القراءة صفحة 31.

وما يجعل القارئ يميل إلى هذا الاستنتاج كذلك، هو العديدُ من القصص المقتبسة من كتاب “كليلة ودمنة”. يقول عبد الله بن المقفّع عن ترجمته لكليلة ودمنة (أو كتابته؟): ” من قرأ هذا الكتاب ولم يفهم ما فيه ولم يعلم غرضه ظاهرًا أو باطنًا لم ينتفع بما بدا له من خطّه ونقشه” (كليلة ودمنة، صفحة 39). ألم يُرِد ابن المقفّع أن يبعث رسائلَ سياسيّةً عن العلاقة بين الحاكم والمحكوم، مختبئةً في حكايات أطفالٍ أبطالها حيواناتٌ ناطقة؟ ألم يكن غرضه أن يعظ -بالحيلة- الخليفة المنصور، من كان شديد البأس على من يعارضه ولو بالقول؟ يضطرّ الكاتب أن يدسّ لسانه في أفواه حيواناتٍ لتتحدّث عوضًا عنه، حين لا “يمتلك لسانه” كالسلحفاة السابقة الذكر، حين لا يمتلك حرّيّة استخدامه كما يشاء.

من قصّةٍ عن احتيال أزهر على الخليفة المنصور، كتاب درجات القراءة صفحة 28.
من قصّةٍ عن احتيال أزهر على الخليفة المنصور، كتاب درجات القراءة صفحة 28.

نقدّم لكم هنا رحلةً في كتاب درجات القراءة، لنحاول اكتشاف بعض الرسائل المخفيّة فيه، لأنّ أي كتابٍ، ولو كان مخصّصًا -كما يوضّح صاحبه- لتعليم القراءة العربيّة لطلّاب الصفّ الخامس، يحتمل دائمًا قراءاتٍ جديدةً تنقّب في نصوصه.

قد تنجي الحيلة من الموت، أحيانًا!

كثيرًا ما يكتفي الحاكم بالنظر إلى ظاهر الأمور فقط، ففي قصّة “الأعرابيّ والشاعر”، وقصّة “حسن البديهة” لا يصدّق الحاكم أنّ أعرابيًّا (في الأولى) وأن شاعرًا رثّ الهيئة (في الثانية) يكتب شعرًا حسنًا، تمامًا كما الأسد الناظر إلى صورته في المرآة ظانًّا أنّها أسدٌ آخر في قصّة “الأرنب والأسد”، بعد أن أوهمه الأرنب بذلك ليهرب من أنيابه. لذلك، قد تُنجي الحيلةُ من الموت، حين تُدرَكُ قواعد “اللعبة” التي لا يستطيع الحاكم ألّا يطبّقها خشيةً على صورته، كقصّة الخليفة عمر بن الخطّاب مع الهُرْمُزان، حين أدرك الأخير أنّ الحاكم لا ينبغي له التراجع عن كلامه، فاستغلّ ذلك متحايلًا لينجو. كذلك، يسلَمُ أحدُ الخوارج من قطع رأسه أمام المأمون، في قصّة “نصير بن منيع والمأمون”، حين ينشد أبياتًا عذبةً، مستغلًّا رغبة الخلفاء أن يظهروا أمام قومهم بصورة المتذوّق للشعر. وتنقذ الطرافةُ رجلًا في قصّة “عفو زيادٍ”، لأنّ الحكّام كثيرًا ما يصيبهم الملل، كالذي هاجم هارون الرشيد في قصّته مع جعفر البرمكي في الكتاب، فتنجح الطرفة في تسليته، عندما يفشل البستان والأنهار والأطيار.

 قصّة "عمر والهرمزان" ، كتاب درجات القراءة صفحة 109.
قصّة “عمر والهرمزان” ، كتاب درجات القراءة صفحة 109.

أيّها الحاكم، كنُ مثل حاتم!

يخصّص خليل بيدس عددًا كبيرًا من القصص كي يتحدّث عن عدل الحاكم، مثل عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، لكنّ النصيب الأكبر من هذه القصص خصّصها لحاتم الطائيّ، الذي كان أمير قومه واشتهر بكرمه الشديد، فذبح حصانه (رمز القوة العسكريّة وقتها) في قصّة “حاتم يجود بفرسه” ليطعم الناس، حين جاء قومٌ إليه يقصدون النعمان ملك الحيرة، ففي الطريق بين الناس والنعمان (رمز البذخ) يجب أن يكون الكرم (ممثّلًا بحاتم) موجودًا، لأنّ مُلْكَ الظلم زائل، كما في قصّة “بنت النعمان” التي كانت تنشر عليها ألف نسيجٍ من الحرير، فزال جمالها وجلالها حين قابلها سعد بن أبي وقّاص بعد الفتح، فأنشدتْ شعرًا عن غياب عدل أهلها، ملوك الحيرة، عن الناس، وذكرتْ كيف أذهَبَ الدهرُ نعيمهم.

من قصّة "بنت النعمان" ، كتاب درجات القراءة صفحة 135.
من قصّة “بنت النعمان” ، كتاب درجات القراءة صفحة 135.

طالبوا بحقوقكم بشجاعة الأطفال!

في قصّة “هشام والغلام” ينحبس المطر عن البادية، فيتوجّه زعماء القبائل ليقابلوا الخليفة، لكنّهم يخافون الحديث عن مطالبهم، فيطالب طفلٌ بحقوق الناس مستغلًّا مهاراته بالحديث، فينال ما يشاء. وفي قصّة “عبد الله بن الزبير في صغره” يرفض عبد الله أن يترك حقّه في التواجد بالطريق وتسليمه بالكامل لمرور الحاكم. لكن، ربّما علينا أن نحذر عند المطالبة، حين نتذكّر كيف أنّ الحجّاج قتل عبدَ الله عندما ثار على الدولة الأمويّة. (تصف قصّة “الحجّاج وشيخٌ من الأعراب” الحجّاجَ بالغشوم الظلوم، وبأنّ الخليفة عبد الملك الذي عيّنه أغشم وأظلم).

قصّة "عبد الله بن الزبير في صغره" ، كتاب درجات القراءة صفحة 59.
قصّة “عبد الله بن الزبير في صغره” ، كتاب درجات القراءة صفحة 59.

 

أرض الله واسعةٌ ولو امتلأت بالأفاعي!

تصف قصّة “الأسد وأصحابه والجمل” كيف غدر ملك الحيوانات بجملٍ بعد أن أعطاه الأمان والغنى. وفي قصّة “الحاج والعجوز” تعلّم امرأةٌ تعيش في خيمةٍ حاجًّا تائهًا اصطياد الأفاعي ليأكل، وكيفيّة حصوله على الماء المالح. وحين تسأله عن بلاده ويخبرها أنّ فيها النعم الكثيرة والأطعمة الطيّبة والمياه العذبة، تسأله إن كانت بلاده تحت يد سلطانٍ جائر، قد يخرجهم إذا شاء من بيوتهم، وحين يردّ أنّ الأمر قد يكون كذلك، تقول له ألا تصبح النعمة مع الظلم سمًّا، وتصبح الأفاعي إذا توفّر العدل ترياقًا؟ هنا نتذكّر كيف رفض خليل بيدس العمل في وظائف عرضتها عليه سلطات الانتداب.

من قصّة "الحاج والعجوز"،  كتاب درجات القراءة صفحة 35.
من قصّة “الحاج والعجوز”،  كتاب درجات القراءة صفحة 35.

في النهاية، ربّما لا يكون خليل بيدس قصد ذلك كلّه، لكنّ هدف أيّ قراءةٍ أن تجعل القارئ شريكًا للكاتب في كتابته، وأن تحرّر القارئ من سلطة الكاتب في احتكار التفسير الواحد، ومن البخل في التأويل، ألم يقل أبو نواس مسرورًا عندما سمع ناقدًا يفسّر شعره: “أعلمني عن شعري ما لم أعلمه”؟

أبو نواس يهجو بخيلًا، كتاب درجات القراءة صفحة 57.
أبو نواس يهجو بخيلًا، كتاب درجات القراءة صفحة 57.

نازك الملائِكة: رَمز الشّعر الحر والتغيير

لم تكن قِصة نازِك الملائِكة تقتصِر على الأَبيات والقوافي فحسب؛ لقد كانت قصة مرونة، وشهادة على الروح الدائمة لامرأة مصممة على نحت إرثها.

نازك الملائكة

صورة شائعة لنازك الملائكة

بِمُناسَبَةِ الاحتفاءِ بِيومِ اللّغة العربية، يتعيّن علينا التّأَمّل في الشّخصياتِ البارِزَة التّي ساهمت بشكلٍ كبير في إثراء وتطوير هذه اللغة العريقة. تبرز قصة الأديبة نازك الملائكة كشاهد على عُمقِ اللّغة العربية من خلال استحداثها نمطاً مميزاً من الشعر احتضنته اللغة مما يدلُّ على تنوعها وتقبلها للتجديد.
بدأت قِصَّة نازك صادق الملائكة في مَدينة بغداد، حيث وُلِدت في وِسطِ عائلةٍ غنيةٍ بالشّعراء، في بيئةٍ تَنبُضُ بالحيوية الثقافية. مُحاطةً بأجواءٍ أَدبية وبتوجيه من والدتها سلمى الملائكة، الشاعرة المحترمة، ووالدها الكاتب، شَحذت نازك مهاراتها في وقت مبكر. فلم تكن بداية كتابة أولى أشعارها في العاشرة من عمرها أمرًا مفاجئًا. كما شَجّعَ هذا الجو المثقف والمليء بالإلهام نازك للانطلاق نحو عالم الفنون الجميلة حيث درست الموسيقى.
إنَّ شَغَف نازك بالعود، والذي عَزَّزَهُ مُدرّس موسيقى مُوَّقَر، دَفعها في كثير من الأحيان إلى قضاء ساعات في ضَربِ أوتاره بمفردها في حديقة منزلها.

صحيفة الإتحاد،14 تموز 2002
صحيفة الإتحاد: 14 تموز 2002

كانت بداية خروجها عن المألوف عند نشرها ديوانها الأول بعنوان “عشاق الليل” الذي كان انعكاسًا لتأملاتها وارتباطها الحميم بالطبيعة، وواجه في البداية آراءً مُتباينة. وَتَرَدَّدَ النُّقاد حول انحِرافِها عن الإيقاع الراسخ، وعلقوا على ما اعتبروه افتقارًا إلى الرنين العاطفي المعاصر.
لكنَّ شَغَفَها بالأَدَب ولإثبات نفسِها جَعَلَها تَسعى لِأُفُقٍ أَبعد، فسافرت إلى الولايات المتحدة وحَصَلت على درجة الماجستير في الأدب المقارن. هذه الخطوة العلّمية كانت البداية في تطوير أسلوبِها الأَدَبي الفريد واكتساب فهمٍ عَميق للأدب العالمي.

وفي نَفس العام، تَجَلَّت بَراعَتها الإبداعية في مقالٍ بعنوان “الكوليرا”، مستوحى من التقارير الإذاعية عن تصاعد الوفيات بسبب المرض في مصر. وبحماسة، أسرعت إلى أختها إحسان، لاهثة الأنفاس من الترقب. فأَعلَنَت وهي حَريصة على مشاركة انتصارها: “لقد نسجت نوعًا مختلفًا من الشعر”. لكن لم يشاركها الجميع حماسها.
كانت أختها من أشد المؤيدين لها، لكن والدتها أظهرت القليل من الحماس، وانتقدت غياب الموسيقى الشعرية. وبالمثل، سَخِرَ والدُها من جُهودها، وتوقع لها الفشل. ومع ذلك، وبإصرار لا يتزعزع، أعلنت نازك بثقة: “قُل ما شئت، فأنا على يقين أن شعري سيغير خريطة الشعر العربي”.

وكان لنازك ما شاءَت؛ إذ على الرغم من الرفض الأوليّ من العالم الأدبي المحاط بها والمرتبط بشدة بالأساليب التقليدية للكتابة، إلا أنَّ شِعرها الحُر الرّائد أَصبح في النهاية يَحتفل به ويَحظى بالقُبول على نطاقٍ واسع. اجتازت نازك عالمًا أدبيًا متجذرًا بعمق في التقاليد، حيثُ كانَ التجّريب والتغيير ضيفاً غيرَ مُرَحَبٍ بِه.
لم يَكن كَسرُ هذِهِ السَّلاسِل بالأمر السهل. فَقد قُوبلت ولادة الشعر الحر بدهشة كبيرة، وخيبات أمل متوقعة، وعالم متردد في قبول التغييرات. اشتعلت المناقشات حول ما إذا كانت “الكوليرا” رائدة الشعر الحر. وتهامس البعض بوجود منافسة بين نازك وشاعرٍ آخر هو بدر شاكر السياب الذي أصدر قصيدة بعنوان «هل كان حباً؟» قبل “الكوليرا”. ولا يزال الجدل حول من هو المبتكر الحقيقي لهذا الأسلوب الشعري الجديد مستمراً حتى يومنا هذا.
وعلى الرغم من كفاحها وإحجام العالم عن الاعتراف بإبداعاتها، ظلت نازك صامدة. كانَ سَعيها لغزوِ عالمٍ يَحكُمُهُ الرّجال في الغالب مدفوعًا بالتحديات التي تواجهها النساء في المجتمع العربي – التوق إلى التعبير عن المشاعر التي تخنقها الأعراف المجتمعية.

صحيفة الإتحاد،30 نيسان 1992
صحيفة الإتحاد: 30 نيسان 1992

 

ومع ذلك، لَعِبَ القَدَر لُعبَة غريبة، حيث قادت الملائكة، بعد سنوات، ثورة ضد الشعر الحر، ودعت إلى العودة إلى الأشكال الكلاسيكية. تسبب هذا التحول في رأيها في حدوث انقسامات بينَ أقرانِها والأوساط الأدبية، مما جعلها معزولة إلى حد ما.
رغم هذا المد والجزر في حَياتِها وَمَواقفها الأَدبية، كانَت رِحلةُ نازك تَحمِل قُوَّةً فريدة من نوعها. أصبحت شهرتها في عصر النهضة الشعرية منارة للنساء – حكاية مفكر مستقل، وعالمة موقرة، وكاتبة رسمت روحها بالبلاغة. كان تصميمها على التفوق في مجال يهيمن عليه الرجال تقليديًا، وخاصة في المجال الأدبي، أمرًا بالغ الأهمية في عصرها.